المقال الثالث
أيها المواطن التلفزيوني.. أنقذ نفسك
شكراً للّه. فمن نعمه عليَّ في رمضان الكريم، أنه منحني القدرة طوال شهر، على مقاومة غواية الفضائيات العربيّة، ومقاطعة كلّ ما يُبثُّ عليها من مسلسلات، وبرامج ترفيهيّة، ومسابقات رمضانيّة، ومقابلات تهريجيّة.
تجرّأت وخنتُ وطني، حسب تعبير محمد الماغوط، رحمه اللّه. ذلك أنك في العالم العربيّ تنتمي إلى التلفزيون. هو وطنك وحزبك وأهلك وعشيرتك. تشي قناتك المفضّلة بقناعتك وهواياتك وسنّك العقلية والثقافية ومزاجك العاطفي، ونواياك الانتحارية.
إذا كنّا جميعنا مواطنين في جمهورية التلفزيون، فأنا أُعلن نفسي مواطنة منشقة، بعد أن قضيت صيفاً كاملاً وأنا في حالة تخدير مشهدي، أركض مع المراسلين الحربيين من ضيعة إلى أُخرى، ومن قناة إلى أُخرى. حتى في نومي، كنت أفتح التلفزيون مذعورة، عسى كارثة حلّت أثناء نومي ولم أدرِ بها. هلع واحد يسكنني: ماذا لو سقط أحد المراسلين شهيداً على مرأى منّا وورّطنا في دمه؟ كتيبة المراسلات الجميلات الشجاعات اللائي كنّ يتحدثن إلينا، واصلات الليل بالنهار، غير آبهات بالصواريخ التي تمطر حولهن وفوقهن من كل صوب.. أين هنّ؟
كيف لصبايا فضائيات التبرُّج، اللائي يسهرن ليلهنَّ ويُحيين نهارهنّ ببيعنا المباهج الكاذبة، وأزياءهنّ الباذخة، المقدَّمة كإعلانات للمصممين، أن يُنسيننا صبايا الخوذة والسترة الواقية، صبايا الشجاعة والغضب المهذّب والحزن الراقي؟ يا للعجب! ما دعاهنّ أحد إلى برنامج تلفزيوني لنتعرّف إليهنّ أكثر، لنطمئن عليهنّ، وقد كنّ أهلنا وبناتنا؟
قرّرت ألاّ أكون من نُسّاك التلفزيون، أيّاً كان مذهب القناة.
الذين باعوا العالم العربي البهجة الكروية المشفّرة، أَمَا كان في إمكانهم إنقاذنا من قهر متابعة مباراة موتنا، بتشفير أعراس الدم العربيِّ أيضاً؟
العرض المجاني لايزال مستمراً، مادام الأمر يتعلّق بهلاكنا. ليواصل مَن شاء الفرجة. سواء أتابعت الفضائيات الإخبارية، أم تلك الترفيهية الخلاعية، ثمّة اتفاق على الإجهاز عليك.
أيها المواطن التلفزيوني.. أنقذ نفسك!
عندما ينتحر الممثل.. نيابة عن المشاهد
توقّعتُ هذا الصيف، وأنا أُتابع مسلسل الدمار العربي، أن يُقدم أحد المشاهدين العرب على الانتحار قهراً. ثم جاء رمضان، وخفت أن يتمرّد أحد عبيد المسلسلات الرمضانية، وينتحر احتجاجاً على تكبيله شهراً كلّ سنة أمام التلفزيون. وإذا بالممثلين هُم المنتحرون. فقد فاجأتنا الصحف بخبر محاولة انتحار الفنانة الشابة إيمان أيوب بقطع شرايين يدها، لعدم عرض المسلسل الرمضاني الذي تشارك فيه مع نخبة من ألمع النجوم.
ولن أُعلِّق على الخبر بما يزيد من قهر هذه الصبيّة، ذات الملامح البريئة والجَمَال الهادئ، كما تبدو على الصورة. فأنا أعذر يأسها من عالم الأدغال التلفزيونية، ومافيا المسلسلات الرمضانية، التي أصبح لها ذئابها وثعالبها ووحوشها البشرية، التي تعرف من أين تُؤكَل "كتف المشاهد"، ومن أين تُؤتى جيوب القنوات، ومتى تنقضُّ على العقود والصفقات، فتسلقها لنا كيفما اتفق شوربة رمضانية من ثلاثين وجبة يومية.
إنها حقاً "سوق للخضار" حسب تسمية المسلسل الذي رُصد له أكثر من 9 ملايين جنيه كميزانية مبدئية، وكُتبت قصته على قياس نجومية فيفي عبده، المشغولة على مدار السنة بنشاطها الخاص في الملاهي وحفلات الأعراس، ولا تحلُّ ضيفة على طاولة إفطارنا إلاّ في رمضان· ولنكن واقعيين. إنّ تسعة ملايين جنيه ليست اليوم بمبلغ يُذكَر، حتى وإن كان البعض يستكثره على أعمال أدبية حفرت وجدان القارئ العربي، مادام ردفا روبي يساويان مليوناً ونصف المليون دولار، أو بالأحرى حق تصويرها في إعلانات عن ماركة مايوهات. موجهة إلى أسواق عربية!
وتريدون بعد هذا ألاّ تُقدم ممثلة شابة وجادة على الانتحار، بعد أن أصابها الإرهاق من العمل ليلاً ونهاراً على مسلسل لن يرى النور، تدور أحداثه في فترة ما قبل ظهور الدعوة الإسلامية، وتم تعديل اسمه من "نصر اللّه" إلى "نصر السماء" قبل أن يصبح الاسمان، حسب القاموس السياسي اللبناني الجديد.. سيَّــان