هذه المرة الفكرة ستختلف تماما عما سبق . . أو هكذا يخيل لي !! فالحكم ليس لي وإنما لكم أنتم . .
و الإسلوب حتما سيختلف تبعا لذلك . .
فهي رحلة ليست ككل الرحلات المعتادة . .
ففيها ستحلقون معي بخيالكم فقط !! وترسمون بعقولكم صورة ثلاثية الأبعاد لما سترونه أمامكم من أحداث . .
و . .
" علي السادة الركاب الإستعداد وربط الأحزمة فالرحلة ستبدأ بعد قليل " . .
يبدو أنني لن أتمكن من مواصلة ثرثرتي معكم . .
والآن إعذروني فقد حان وقت المغادرة . .
مهلا !! . .
ربما سألتقي بكم مرة أخري بعد إنتهائها . . وربما لا !! . .
*'*'*'*'*'*'*'*'*'*
كان رقيق الملمس . . أسمر اللون وقد التصق بما تحته وتشققت بعض أجزاءه بشكل يثير شفقة كل ناظر . .
سألته بخفوت خشية إزعاجه :
" هل يمكنك أن تعرفنا بنفسك سيدي ؟! " . .
نظر لي بإرهاق ثم قال بصوت واهن :
" وماذا بعد أن أعرفك بنفسي ؟! فأنا خط الدفاع الأول ضد أي غزو خارجي أو عدوي . . أقوم بتصنيع فيتامين (د) . . وإفراز صبغة الميلانين . . وبالتالي الوقاية من خطر الأشعة (فوق البنفسجية) الضارة . .
أنواعي عديدة وفقا لشكلي الخارجي . .
شيخوختي تظهر مع تقدمي في العمر وذلك حينما ينخفض معدل إفراز (الكولاجين) . .
أنا ما تطلقون عليه في لغتكم إسم (الجلد) !! " . .
قلت له بإهتمام :
" وما الذي أدي بك لهذه الحالة المزرية ؟! " . .
قال بكلمات تقطر المرارة من كل حرف من حروفها :
" سوء التغذية !! . . ومن ثم عدم وصول العناصر الغذائية التي من شأنها أن تساعد في تجديد خلاياي والحفاظ علي قوتي ونضارتي ". .
ثم أعرض عني بعد علمه بوجود محاولة إعتداء بكتيري جديد . .
تجاوزته فوجدت تحته إحدي الطبقات الرقيقة شاحبة اللون . .
فسألتها في فضول :
" من تكونين ؟! " . .
نظرت لي بحذر وهي تتفحصني ثم قالت :
" يطلقون علي إسم (الطبقة الدهنية) . . أعمل كعازل للحرارة ولي أدوار بالغة الأهمية . . قلتي تسبب مشاكل . . وزيادتي كذلك تسبب مشاكل لا حصر لها " . .
قلت لها بإشفاق :
" لكنني أري أنك بحالة يرثي لها فما السبب ؟! " . .
قالت بمرارة :
" سوء التغذية !! . . وعدم تناول الأطعمة الغنية بمواد تصنيعي " . .
ربت عليها في حنان ثم تجولت قليلا لأقف أمام جهاز يبدو مهيبا من الخارج . . ولكن ما أن دخلت حتي صدمت مما رأيت . . فقد كان متهالكا جدا . .
سألته في قلق :
" هلا عرفتنا بهويتك يا سيدي ؟! " . .
قال بصوت أراده قويا لكنه خرج علي الرغم منه ضعيفا واهنا :
" أسمي (الجهاز المناعي) . . وأنا عبارة عن منظومة متكاملة من الآليات و العمليات الحيوية وظيفتها التعرف علي أي أجسام غريبة أو ممرضة والتعامل معها فورا . . لي خطوط دفاعية عديدة أستعملها بالتدريج . . أي أنني بمثابة وزارة للدفاع بجسم الإنسان " . .
فسألته بإهتمام :
" إذا ما الذي حل بك وجعلك متهالكا هكذا ؟! " . .
قال بمرارة :
" سوء التغذية !! . . وعدم تناول الأطعمة الغنية بالعناصر المفيدة لي " . .
تساءلت بيني وبين نفسي وأنا أتنقل بين الأجهزة المختلفة :
" كل هؤلاء يعانون من نفس السبب . . سوء التغذية !! " . .
مررت بجوار مضخة عضلية ضخمة . . فتوقفت مذهولا من دقة وإحكام هذا الشئ لكن لاحظت عليه بعض الإرهاق فقلت بعد أن تنحنحت قليلا :
" معذرة سيدي هل لك أن تخبرني قليلا عن نفسك ؟! " . .
فقال وهو منهمك في عمله :
" أنا أساس هذا الجسد . . أقوم بضخ الدم المؤكسج من الرئة إلي بقية أجزاء الجسم وضخ الدم غير المؤكسج من أجزاء الجسم إلي الرئة وهكذا دواليك . . وذلك بصفة دائمة ومستمرة . . ما أن أتوقف حتي يفقد الجسم حياته . . أنا وبلا فخر أدعي (القلب) !! " . .
قلت بحماس :
" (القلب) ؟! . . مركز المشاعر والأحاسيس المرهفة . . مركز الإيمان والتقوي ؟! " . .
ضحك في إرهاق قائلا :
" نعم هو أنا يا فتي " . .
قلت بقلق وقد تذكرت أمرا :
" لكن لماذا أنت شاحب ومنهك هكذا . . لست تبدو كما هو موجود بالصور التي درسناها ؟! " . .
قال بمرارة :
" ما درسته هو صور لقلب مثالي في أكمل قوته وصحته وعنفوانه . . أما أنا فبالكاد أجد من العناصر الغذائية ما يمكنني من أداء وظيفتي . . أنظر لهذا الدم تجد أنه شبه فارغ من أي دهون أو عناصر معدنية أو غذائية " . .
قلت له وقد خمنت السبب :
" سوء التغذية أليس كذلك ؟! " . .
اومأ برأسه إيجابا في حزن ومضي يواصل عمله بنفس الإخلاص والتفاني رغم ضعفه الواضح . .
هززت رأسي في أسي وواصلت رحلتي في صمت وقبضة ألم تعتصرني في عنف . . ثم توقفت أمام حاجز محكم . . فأخرجت تصريحي والذي تم فحصه بدقة شديدة . . ثم تم فحصي أنا أيضا . . وأخيرا سمح لي بالدخول . . فتساءلت في نفسي عن أهمية قاطن هذا المكان المحاط بكل وسائل الحماية والتأمين هذه . .
وما أن أصبحت أمامه حتي شملتني رجفة من قمة رأسي وحتي أخمص قدمي . . فقد كان مهيبا بحق والوقار يبدو جليا في كل قسمة من قسماته . .
قلت بخفوت :
" هل لي أن اعرف من تكون ؟! " . .
تفحصني بنظرة ثاقبة طويلة ثم قال بوقار وبطء :
" أنا حجرة التحكم المركزية . . والآمر والناهي في هذه المنظومة المتكاملة . . أوامري واجبة التنفيذ ولا يمكن عصيانها . . أحلل وأرتب وأفند ومن ثم أتخذ القرار وفقا لما لدي من معطيات متوافرة . . أحيانا قد أخطيء وأحايين أكثر قد أصيب . . أي خلل بي ولو كان بسيطا قد يؤدي لشلل أو وفاة . . أتكون من فصوص وأخاديد وأكون علي شكل نصفي كرة . . ومادة رمادية وأخري بيضاء . . أنا من تطلقون عليه إسم (المخ) !! " . .
قلت له بهدوء :
" إذا فأنت حاكم هذه المنظومة الجسدية !! هل تسمح لي بعدد من الأسئلة ؟! " . .
قال في إهتمام :
" سل يا فتي وستجد ما يشبع فضولك بإذن الله " . .
قلت :
" أولا : ما سبب وجود هذا الحاجر وكل هذه الحماية ؟! "
قال وقد إرتسمت علي شفتيه إبتسامة غامضة :
" بما أنني رأس هذه المنظومة ومسيرها . . لابد من أن أتمتع بحماية قادرة علي صد أي مواد أو أجسام غريبة أو ضارة ومنعها من الوصول إلي وإلحاق أي أضرار قد تكون مميتة في بعض الأحيان . . وهذه أبسط حقوق لأي حاكم أو رئيس ألا توافقني في ذلك ؟! " . .
قلت بسخرية :
" فعلا . . كل الرؤساء يتمتعون بهذه الخاصية وإن اختلفت الوسائل المتبعة " . .
قال مدافعا في سرعة وقد فهم مغزي عبارتي :
" لكنني لست مثلهم ولن أكون أبدا . . أنت تفهم ما الذي أقصده أليس كذلك ؟! " . .
اومأت برأسي إيجابا وأنا أقول :
" نعم أفهمك تماما . .
ثانيا : بما أنك مسئول عنهم وعن سلامتهم فلماذا يعاني أعضاء مملكتك من سوء التغذية وعدم توافر أي عناصر غذائية كافية ؟! " . .
قال في حزم :
" هذا ليس ذنبي . . لقد أطلقت أوامري بالبحث عن أي مصادر غذائية متاحة . . وإنطلقت الأعين والأيدي والأرجل في بحث مضن لكن دون جدوي " . .
ثم صمت قليلا وأضاف بلهجة يشوبها غضب شديد :
" إن أردت الصراحة . . فأنتم مسئولون في المقام الأول عن هذه المأساة التي يعيشها هذا الجسد المتهالك !! " . .
قلت بعصبية وإستنكار :
" نحن ؟! . . هل لك أن تفسر لي علي أي أساس بنيت هذا الإتهام الخطير ؟! " . .
قال بغضب شديد :
" نعم أنتم !! . . جل همكم هو إبتكار الأسلحة وإمتلاك القوة . . هل ساعدتم يوما أولئك المساكين الذين يعانون من مجاعات دائمة وفقر مدقع ؟! . .
فقط تنظرون لهم في إشفاق وما أن تغيب صورهم عن أعينكم حتي تعودون لما كما كنتم فيه من لهو واشتغال بإمور لا فائدة منها . .
هل فكر أحدكم يوما ما مصير أولئك الصغار المتهالكين وهل سيصمدون ويكبرون أم سيلحقون بمن سبقهم ؟! . .
ليس الإسلام مجرد صلاة وصيام وزكاة فقط بل هناك حب الآخرين ومساعدتهم . . ألم يحثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أن نتفقد الآخرين وألا ننام وجارنا جائع ؟! . . (من فك كربة أخيه فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ألم تسمعوا بهذا أبدا ؟! . . ليس لدي أي كلام أضيفه لك أكثر من ذلك !! " . .
وهنا أسقط في يدي ولم أدر بماذا سأحاوب أو كيف سأدحض إتهاماته حتي . .
فقد أصابت كلماته كبد الحقيقة في مقتل . .
هل تعرفون صاحب هذا الجسد المتهالك و الذي تنقلنا بداخله ؟! . .
إنه حسد طفل يعاني من المجاعة وسوء التغذية . .
قد يكون من الصومال أو من الهند أو من أي بقعة أخري في العالم الإسلامي أو العربي . .
فالموقع لا يهم بقدر ما تهم القضية . .
أتمني أن تكون رسالتي قد إتضح مضمونها لديكم . .
والآن فقد إنتهت الرحلة وحان وقت العودة فهل أنتم مستعدون ؟! . .
تمت بحمد الله وفضله