الحلقة الاولى :
تمّت السرقة في الثانية عشرة مساء..
لقد فقدنا المدية الفضية يا سادة وعلينا أن نقبل هذه الحقيقة. حاولي أن تمسحي دموعك يا إيرين وأن تتماسكي قليلاً.. لو كان البكاء يعيد المدى الضائعة لجلسنا جميعًا نبكي...
ربي! إنها منهارة تماما.. هلم يا كارل قدّم لها بعض البراندي.. اجلسي..
ترى أن نبلغ الشرطة؟ لا جدوى من هذا يا ألفونس.. الشرطة ليست مجموعة من السحرة. أنت تعرف كما أعرف أن من حطّم هذه الواجهة الزجاجية كان يلبس قفازًا.. الشرطة لن تجد بصمات.. هذا شيء محتم. سوف يبحثون عن شخص يحاول تهريبها خارج البلاد.. لا جدوى طبعًا؛ لأن من سرق المدية أذكى من هذا.. سوف يبتاعها أحد الأثرياء داخل البلاد ويضعها في قبو داره إلى أن يموت.. نفس ما كنا سنفعله نحن على كل حال...
إيرين.. إنها فاقدة الوعي ولو توخيت الدقة لقلت إنها في صدمة عصبية..
هذا غريب.. الأمر يتجاوز فهمي للأمور... يكفي بعض البكاء وينتهي الأمر، لكنها في رأيي تبالغ نوعًا. ربما كان عليك أن تطلب الإسعاف يا كارل وأن نجلس لنتصور كيف تمت هذه الجريمة..
هل الزجاج محطّم؟
لا؟ إذن هناك من استعمل المفتاح. لكن كيف يحدث هذا بينما أنا وإيرين الوحيدان اللذان يملكان مفتاحًا لهذه الواجهة؟
إذن لا بد من تفتيشي.. هلم! أنا مصرّ على ذلك..
تعالَ يا ألفونس إلى الغرفة المجاورة وقم بتفتيشي.. إيرين ليست متهمة طبعًا لكني أرى أن ننتظر قدوم إليزابيث لتفتشها بدورها.. إن المدية شيء صغير يسهل إخفاؤه..
تعال يا ألفونس.. لندخل هناك ولتعلن بعد التفتيش أنني شريف لم أسرق المدية الفضية..
******************
هناك في الخندق رقد فاسيلي زايتسيف على بطنه يراقب المتاريس..
متاريس بلهاء فعلاً ولن تعوق أحدًا لكنها تلعب دورًا نفسيًا مهمًا.. تشعرك بأنك لست معرضًا.. ومد يده يعتصر حفنة من الثلج....
أكتوبر 1942 والحرب في ذروتها.. يبدو أنه ما من أحد قادر على قهر هؤلاء النازيين..
أعاد حشو البندقية وأخذ شهيقًا عميقًا... وأحكم التصويب..
هناك في مدى الرصاص ذلك الشاب الألماني الذي يتحدث مع رفيقه وكلاهما يحمل قدحًا به شيء ساخن.. حساء أو قهوة.. صغير السن جدًا يذكرك بالمراهقين. الحقيقة أن فاسيلي كف من زمن عن اعتبار النازيين بشرًا، كما أنه يمقت السخف الأدبي على غرار: هذا شخص مثلي ومثلك لديه أحلام وأهل وحبيبة... إلخ..
لم يعد هناك مجال لهذا الترف الأدبي.. إنها الحرب يا رفيق..
إن زايتسيف أهم قناص في الجيش السوفييتي، وورقة اللعب الأهم لدى السوفييت أثناء معركة ستالينجراد.. فيما بعد سوف يمنحه ستالين وسامًا، وبعد نحو خمسين عامًا سوف تقدم هوليوود فيلم "العدو على الأبواب" عن قصة حياته..
أما اليوم فليس في ذهنه سوى شيء واحد.. إنه يريد ذلك الفتى الألماني.. سوف يظفر به.. أحكم التصويب.. كتم أنفاسه.... سوف تضاف جثة أخرى للقتلى الألمان بعد ربع ثانية..
هنا شعر بمن يثب عليه من الخلف.. يا ابن الشيطان!.
على الفور رأى الوجه الألماني الذي يطلق السباب بالألمانية.. وأدرك من القبضة القوية أنه يأكل جيدًا جدًا ولا يعاني سوء التغذية مثل السوفييت. كان الألماني يجثم فوقه وهو يحاول أن يولج السونكي في صدره وهو يردد بلا توقف:
- "شايسه! شايسه!"
ما معنى هذا؟ الأسوأ أنه يبصق أيضًا.. يحاول فاسيلي أن يشله بيده اليسرى..
راح يتحسس الثلج بيده اليمنى.. لمست أنامله شيئًا... عندما تحسسه أدرك أنها مدية، على الأرجح سقطت من جيب هذا الألماني. لا وقت للتردد.. إن قواه تخور والألماني قوي فعلاً...
بيد راجفة حمل المدية ثم حشرها بين جسده وجسد الألماني و.. هوب.. انغرست حتى النصل في صدر الرجل.. لكنه انتزعها وهذه المرة غرسها في عنقه....
هوى الجسد الضخم من فوقه وقد فرغ من الحياة... نحن بالونات مليئة بالحياة يكفي ثقب رصاصة أو طعنة بمدية كي تخرج كل الحياة منها وتتداعى. فس س س س!
جثة ترقد وسط الثلوج..
أخيرًا اعتدل فاسيلي وبحث عن بندقيته.. يجب أن ينهي عملية القنص وبعدها يفهم كيف تسلل هذا الوغد الألماني إلى الخندق..
لكنه عندما نظر في مجال البندقية وجد أن الجنديين الألمانيين قد اختفيا..
لقد خسر ألمانيًا وربح واحدًا... لعبة قدرية غريبة.
انتزع المدية من عنق الرجل ملوثة بالدم، فمسحها بمنديل وراح يتأملها... فضية... لا شك في هذا.. على الأرجح غالية الثمن كذلك...
دسّها في جيبه وقد أدرك أنه لن يبيعها.. سوف يبقيها تذكارًا لهذه الحرب اللعينة، فقط لو ظل حيًا.. وهو كان على يقين من أنه سيظل حيًا..
ابتعد عدة خطوات ثم التفت للخلف ليرى المشهد مرة أخيرة..
لم يكن هناك أحد.. لا جثث على الجليد.. لا دماء.. فقط ثلج مبعثر في كل مكان..
تحسس جيبه فوجد المدية ما زالت هناك......
******************
إن إيرين لا تتنفس..
لا أعرف ما حدث في هذا اليوم الأسود.. أرقدوها أرضًا.. سوف أحاول أن أجري لها تنفسًا صناعيًا.. أين هذه الإسعاف اللعينة؟؟
تنفسي يا إيرين.. تنفسي أرجوك...
بالمناسبة لا يغادرنّ أحدكم المكان؛ لأننا سنجري تفتيشًا دقيقًا على الجميع بعد أن نطمئنّ على إيرين..
تنفسي يا إيرين...
شهيق..
زفير..
شهيق..
زفيييير..