وقفت تلك الطفلة الصغيرة ذات السنوات السبع تنظر لتلك الأنقاض في صمت والدموع تنهمر من عينيها بغزارة . .
أنقاض ما تبقي مما كان يوما من الأيام منزلا يضم أفراد أسرتها الصغيرة . .
والذين لم يسعفهم الحظ بالنجاة بأنفسهم قبل وقوع الكارثة . .
كانت قد ذهبت لتشتري بعض الحلوي من أحد المتاجر الواقعة في نهاية الشارع الثاني . .
حينما حدثت تلك الهزة الأرضية العنيفة . .
فسقطت أرضا من شدة قوتها . .
ثم نهضت وأخذت تجري خائفة نحو منزلها وهي تنفض الغبار عن ملابسها بكل براءة . .
وفجأة تلفتت يمينا ويسارا بحثا عنه ولكن بلا جدوي . .
وهنا اتسعت عينيها الصغيرتين وهو تنظر نحو بقعة بعينها . .
نعم إنها دميتها الصغيرة التي لطالما رافقتها . .
تساءلت بدهشة والحيرة ترتسم بمحياها البريء :
ولكن ما الذي جاء بدميتها لهذه الأنقاض ؟! . .
مهلا أليست تلك الدراجة المحطمة هي دراجة والدها البخارية ؟! . . بتلك العلامة المميزة في جانبها الأيمن و التي قامت هي بوضعها بنفسها ؟! . .
وفجأة لمحته فإرتجف قلبها الصغير في رعب وخوف . .
كان الجزء العلوي من جسد أخيها الكبير . .
وهنا أدركت بأن أسرتها قد اندفنت هناك تحت هذه الأنقاض . .
حاولت بيديها الصغيرتين أن تحفر عسي ولعلها تتمكن من إنقاذهم وإخراج اجسادهم . .
لكن بلا جدوي . .
فوقفت تنظر وقد إنهمرت دموعها بغزارة وهي تبكي بحرقة وألم . .
احتشد الناس في محاولة يائسة للإنقاذ . .
وتم إستخراج اجساد من دفنوا . .
ولكن . . بلا أرواح . .
ثم علا صوت سارينة الإسعاف بعد مرور وقت طويل . . علي الرغم من إعلامهم بمجرد سقوط المنزل !! . .
أما هي فقد تسمرت بمكانها وهي تحدق فيما حولها بعيون خاوية . .
ثم شعرت بإحدي النساء تسحبها من يدها وتضمها لصدرها بلطف . . وتقبلها بحنان وعطف بالغين . .
وتبنتها تلك السيدة واعتبرتها كإبنتها . . خصوصا أنها لم تنجب أبدا . .
وأحبت كل منهما الأخري . .
وكانت الطفلة تناديها دائما ب(أمي) . .
ومرت الأيام . . والشهور . . والسنوات . .
وكبرت تلك الطفلة . .
وتزوجت . .
وصارت أما . .
ورغم ذلك لم تخبر ابنها أبدا بحقيقة جدته . . والتي مازال يظن بأنها أم أمه . .
و هاهوذا ابنها قد أصبح علي مشارف الزواج و دخول عش الزوجية السعيد . .
و . .
" و هذه هي قصتي الحقيقية يا بني " . .
قالتها الأم لإبنها الوحيد . .
وذلك بعد أن صارحها بأن والد خطيبته قد أخبره بأن أحد أصدقائه -وقد كان طبيبا- يمت بصلة قرابة بعيدة بتلك السيدة التي يفترض بأنها جدته . .
و أنه قد ذكر متعجبا بأنها -أي جدته- لا يمكن أن تنجب أبدا لعيب خلقي في رحمها . .
لذلك أراد والد خطيبته التأكد من حديث صديقه ذاك . .
قالت الأم في هدوء :
" والآن وبعد أن عرفت الحقيقة فهل سيغير ذلك من شيء ؟! . . وهل ستتغير معاملتك لجدتك التي تبنتني ورعتني وأوصلتني لكل ما أنا فيه الآن ؟! " . .
قال الإبن في حنان وهو يقبل رأس والدته بإحترام :
" بالعكس فقد زاد ذلك من حبي واحترامي لجدتي التي لم تبخل علي بحنانها وحبها أبدا . . ويكفي أنها قد قامت بواجبها نحوك علي أكمل وجه " . .
قالت الأم بعد برهة من الصمت :
" ألن يؤثر ذلك علي أهل خطيبتك ؟! " . .
قال الأبن في حزم :
" من لم يتقبل تلك الحقيقة فلا يلزمني في شيء " . .
ابتسمت الأم في تأثر والدموع تترقرق في عينيها وقالت بخفوت :
" وفقك الله يا بني وسدد خطاك ورزقك بالزوجة الصالحة . . إن رضا الله سبحانه وتعالي في رضا الوالدين وأنا راضية عنك تماما " . .
تمت بحمد الله وحمده . .
يناير 2012 . .