(1) :
إنطلقت تلك الصرخة تشق سكون الليل في عنف شديد . .
ثم هدأ كل شيء . . كما بدأ فجأة . .
فتجمع رجال تلك القرية في سرعة وتوتر بحثا عن المصدر . .
وبأيديهم بعض المشاعل والعصي والخناجر . .
ومنهم من تمنطق بسيفه . . وقام بحشو بندقيته تحسبا لأي خطر محتمل . .
كانت القرية تقع بالقرب من نهر كبير وبجوار منطقة زراعية مليئة بحقول القمح والذرة وبعض المحاصيل الموسمية الأخري . .
وبالطبع كانت الزراعة هي الحرفة الرئيسية لمعظم سكانها إضافة لصيد السمك وتربية المواشي . .
تجمع الرجال بميدان القرية ومن ثم انقسموا لمجموعتين رئيسيتين :
مجموعة لحراسة القرية بمن فيها وما فيها . .
والأخري لتمشيط القرية والبحث عن مصدر الصرخة . . والتي انقسمت بدورها لخمس مجموعات صغيرة . . مجموعة لكل إتجاه من الإتجاهات الأربعة . . والخامسة احتلت مركز البحث . .
قال الحاج (محمد) شيخ القرية وذو السبعين خريفا في لهجة آمرة :
" ستشكل مجموعات البحث الأربعة دائرة واسعة يضيق نصف قطرها بإستمرار حتي تلتقي بمجموعة المنتصف . . فإذا وجدت أي مجموعة مايستحق عليها تنبيه المجموعات الأخري . . هل من أسئلة أخري ؟! " . .
هز الرجال رؤوسهم في نفي قائلين :
" لا أسئلة " . .
قال الشيخ (مالك) إمام مسجد القرية وذو الستين خريفا في هدوء :
" حاولوا التحكم بأعصابكم جيدا وعدم الإقدام علي تصرف متهور حتي نعرف ما سر هذه الصرخة ومن هو صاحبها وما سببها " . .
قال أحد الرجال وهو يهز سيفه بعصبية :
" سنحاول يا شيخنا الجليل رغم صعوبة ذلك " . .
انطلقت بعض همهمات التأييد هنا وهناك . .
فقال حاج (محمد) بصرامة :
" كلما أسرعنا ، كانت فرص نجاح مهمتنا أكبر . . فأي تأخير قد يؤدي لنتائج غير محسوبة أو حتي لضياع أرواح بأسرها . . هيا انطلقوا " . .
انطلق الرجال لتنفيذ الأمر بكل سرعة و حماس . .
وكان حاج (محمد) و شيخ (مالك) قد انضما لمجموعة المنتصف . .
مضت نصف ساعة ومازالت النتيجة لا شيء . .
وفجأة . .
ومن منطقة الحقول انطلقت شهقات قوية وأصوات عالية تصرخ في توتر :
" اقتربوا يا رجال فلقد وجدنا مصدر الصرخة . . أين حاج (محمد) و شيخنا (مالك) ؟! " . .
اتجه حاج (محمد) و شيخ (مالك) وبقية الرجال نحو البقعة المنشودة . .
وما أن وصلوا حتي تسمرت أقدامهم وخفقت قلوبهم بعنف شديد وقد اتسعت أعينهم في ذهول واشمئزاز . .
وقال شيخ (مالك) وهو يشيح بوجهه في سرعة :
" يا إلهي !! هذا بشع للغاية !! " . .
فهناك وعلي بعد خطوات قليلة كانت ترقد تلك الجثة . . أو ما تبقي منها !! . .
جثة لرجل نحيل البنية قد تم ذبحه وفصل عنقه تماما عن جسده وتهشيم رأسه تماما . . بالإضافة لتمزيق أحشاءة بصورة وحشية وتقطيع أوصاله ورميها باستهتار شديد . .
خيم صمت رهيب علي الكل وهم يحدقون باستنكار وعدم تصديق . .
فقد كانت هذه أول مرة يحدث فيها مثل ذلك الفعل الشنيع . .
قال حاج (محمد) بتوتر :
" مثل هذا الفعل المقزز لايكون إلا بدافع الإنتقام أو الثأر علي الأرجح " . .
وافقه حاج (الطاهر) حكيم القرية وذو الستة و التسعين خريفا بإيماءة من رأسه قائلا :
" معك حق يا ولدي . . فطيلة سنوات عمري الطويلة هذه لم يمر علي مثل هذا المشهد الدموي أبدا . . أعتقد أن أفضل ما نفعله حاليا هو منع إقتراب أي شخص من مسرح الجريمة حتي لا تفسد أي أدلة موجودة . . وإبلاغ الشرطة حتي تقوم بعملها وكشف هوية القاتل والمقتول " . .
قال (سعيد) بقال القرية بتردد وهو يمعن النظر بملامح وجه القتيل الملقي علي مقربة من الجثة :
" اممم هذا الوجه ليس بغريب علي فصاحبه كان يشتري مني بعض المواد التموينية بصفة دورية أحيانا . . وقد مر علي قبل ساعة ونصف تقريبا " . .
اتجهت إليه أنظار الجميع في فضول وسأله حاج (محمد) بلهفة قائلا :
" عظيم هذا سيختصر الكثير !! . . هل أبلغك بإسمه أو أين يسكن ؟! " . .
تنحنح (سعيد) في حرج قائلا :
" للأسف نسيت أن اسأله . . لكنني أعتقد أنه يسكن بالقرب من هنا " . .
أطلت نظرة إحباط واضحة من عيني حاج (الطاهر) وهو يعاتبه قائلا :
" وكيف تنسي أن تسأله وهو يتردد عليك ويشتري منك خصوصا أنك فضولي جدا وكثير الأسئلة وأنت تعلم أنه غريب عن هذه القرية ؟! " . .
قال (سعيد) بعصبية مدافعا عن نفسه :
" كنت مشغولا جدا . . وكل ما يمكنني تذكره هو أنه كان يحمل دوما الكثير من المال وكل أوراقه المالية من فئات كبيرة لدرجة أنني كنت أعاني بشده في مسألة إعادة الباقي له . . وأحيانا كان يترك لي الباقي ويذهب بكل بساطة !! " . .
قال حاج (محمد) وهو يفكر بعمق شديد :
" هذا يعني أنه غني جدا . . وقد يكون دافع إرتكاب الجريمة هو السرقة " . .
قال شيخ (مالك) في هدوء :
" قد يكون هو الدافع وقد لايكون !! . . أعتقد أن تحقيقات الشرطة ستحل هذه الأسئلة " . .
أومأ حاج (الطاهر) برأسه قائلا :
" بكل تأكيد " . .
وفجأة قطع حوارهم صوت أبواق سيارات الشرطة تصحبهم عربة إسعاف وهي تتجه نحوهم في سرعة . .
وما أن توقفت حتي خرج منها ضابط برتبة مقدم يتبعه مساعده وعدد من الجنود وخبراء البحث الجنائي الذين توزعوا بشكل مدروس وأخذوا يصورون الجثة ويقومون بأخذ بصماتها وعينات منها والبحث عن أي أوراق ثبوتية تساهم في معرفة هوية المجني عليه . . ثم قاموا بوضع الجثة بداخل كيس بلاستيكي ونقلها لعربة الإسعاف حتي يكشف عليها الطبيب الشرعي المختص ليحدد أسباب الوفاة . .
وقام بعضهم بأخذ أقوال رجال القرية . .
إتجه المقدم (سلمان) نحو حاج (محمد) وصافحه بحرارة قائلا :
" مضي وقت طويل منذ أن تقابلنا يا حاج (محمد) " . .
قال حاج (محمد) مبتسما :
" فعلا يا سيدي . . فآخر مرة كانت منذ سنة تقريبا " . .
قال المقدم (سلمان) وهو يستعيد صرامته وحزمه :
" هل لديك أي معلومات أو شكوك بشأن المجني عليه ؟! " . .
قال حاج (محمد) وهو يمط شفتيه في أسف :
" للأسف يا سيدي !! " . .
في هذه الأثناء كان رجال الشرطة والخبراء قد إنتهوا من عملهم فالتفت المقدم (سلمان) نحو حاج (محمد) قائلا :
" سنخبركم بأي جديد حالما ننتهي من التحقيق . . والآن فليعد كل منكم لمنزله " . .
ثم اتجه نحو سيارته وانطلقوا بسرعة . .
وتفرق رجال القرية نحو منازلهم وفي عقولهم تدور آلاف الأسئلة بلا إجابات شافية . .
@ @ @
يتبع