هي قصة افتراضية من نسج الخيال . .
لكنها ربما تكون قد حدثت بالفعل في زمان ما !! . .
أو مكان ما !! . .
ففي ظل هذه التغييرات المتلاحقة التي يشهدها عصرنا الحالي . .
ما قد يكون في زمن ما مستحيل الحدوث تماما . .
نجده قد يحدث في زمن آخر بكل يسر وسهولة !! . .
شخصيا لا أتمني حدوث ذلك أبدا !! . .
لا عاجلا و لا آجلا . .
و ليس لدي أدني شك في أن هذا هو ما تتمنوه أيضا !! . .
* * * * *
الزمان : الساعة الواحدة صباح يوم الجمعة . .
المكان : أحد الأحياء الطرفية . .
هدوء شديد يخيم علي المكان . . وقد استسلم الجميع لسلطان النوم الذي لا يمكن مقاومته أبدا . .
استيقظ حاج (محمد) علي صوت خطوات خافتة تقترب في حذر شديد من غرفة النوم . .
فرفع رأسه قليلا ولمح شخصا ضخم الجثة طويل القامة وقد غطي وجهه تماما فلم يعد يظهر منه سوي عينيه وأنفه فقط . .
هز حاج (محمد) رأسه في وهن ثم قال وهو يسعل في قوة :
" لن تجد شيئا ذا قيمة يصلح للسرقة يا ولدي . . وبما أنك متجه للغرفة فستجد طاولة بها عدد من العلاجات أتمني أن تحضرها لي . . وفي طريقك املأ لي كوبا من الماء حتي أتناول به أدويتي " . .
التفت اللص بسرعة نحو مصدر الصوت شاهرا سكينا حادة لكن سرعان ما زال توتره حينما لاحظ ضعف بنية حاج (محمد) و أدرك عدم قدرته علي المقاومة . . فقال له في خشونة وهو يقيد يديه بقوة وإحكام :
" هل تظنني ساذجا حتي أصدق حديثك هذا ؟! . . سأذهب وأتأكد بنفسي وحتي أنتهي ؛ أتمني أن تلتزم الصمت ولا تقم بأي تصرف متهور قد يكون تذكرة خروجك من هذه الدنيا بلا عودة " . .
قال حاج (محمد) وهو يتآوه متألما :
" حسنا اذهب لتتأكد بنفسك و أرجو منك أن تتذكر أدويتي وتحضرها معك " . .
مرت ربع ساعة قبل أن يعود اللص حاملا معه الأدوية وكوب الماء ثم يقول لحاج (محمد) مستغربا وهو يفك وثاقه برفق :
" صدقت !! . . ولكن كيف تعيش بمنزل ليس فيه أي مقومات للمعيشة ؟! . . أليس لديك زوجة أو أبناء يخدمونك وأنت في هذه السن المتقدمة من عمرك ؟! " . .
تناول حاج (محمد) أدويته ثم قال :
" أسئلتك هذه فتحت جراحا لطالما أردت تناسيها . . فقصتي مأساوية ولن يسرك سماعها يا ؟؟؟ " . .
كشف اللص عن وجهه وهو يقول بفضول :
" يمكنك مناداتي ب (سعيد) . . ليس لدي ما سأخسره فأنا أعزب وأقيم لوحدي !! " . .
أطلق حاج (محمد) تنهيدة حارة . . وصمت للحظات كي يستجمع خلالها ذكريات أحداث مضت عليها سنوات عدة . . ثم قال بمرارة :
" حسنا مادمت مصرا فسأقصها عليك " . .
وبدأ يسرد قصته و (سعيد) ينصت باهتمام وفضول . .
* * *
تركت الدراسة مبكرا حيث لم يكن التعليم متاحا كما هو عليه الآن . . إضافة لكوني الإبن الوحيد الذي كان عليه إعالة نفسه ووالدته بعد وفاة والدي الذي لم يترك لنا شيئا سوي دكان صغير بالكاد يفي بمتطلبات الحياة . .
كنا نتقلب ما بين أيام حلوة كالشهد . . وأخري أكثر مرارة من العلقم نفسه . .
ثم توفيت والدتي بعده بسنة واحدة لتزيد جراحي وآلامي . .
كانت بضاعة الدكان قليلة فاضطررت لبيع منزل الأسرة . . وصرت أبيت بدكاني وأقضي فيه ليالي الشتاء وأنا أتجمد من شدة البرد . .
مرت علي أيام قاسية وأنا أعاني من الجوع والوحدة . .
لكنني صبرت وتحملت وكافحت وبدأت من الصفر مستعينا بقوله تعالي " إن مع العسر يسرا " . .
وبحمد الله ازدهرت تجارتي وتوسعت وصار لدي بقالة كبيرة وتمكنت من شراء هذا المنزل الذي نحن فيه الآن . .
وتوجت ذلك كله بأن أكملت نصف ديني وتزوجت بفتاة خلوقة كانت بمثابة بلسم داوي كل جروحي وآلامي ومتاعبي وشاركتني حلو الأيام و مرها . .
تعرضت لخسارات فادحة لكنني استطعت الوقوف علي قدمي من جديد وصار لدي بدل البقالة عدة متاجر . . وعدد من الأراضي الزراعية والسكنية . .
و اكتملت فرحتي بإن رزقت ب (مامون) ثم (محمود) وأخيرا (مسعود) وكانت تجارتي في إزدهار متزايد مع قدوم كل واحد منهم . .
كبر أولادي الثلاثة ودخلوا أفضل المدارس في ذلك الوقت ولم أكن أبخل عليهم بشيء خصوصا بعد وفاة والدتهم . . فكنت أحاول أن أعوضهم عنها بتحقيق رغباتهم وتدليلهم . .
ومضت السنين وتخرج الأولاد وحققوا ما كنت أحلم به في صباي فكان (مامون) طبيبا ، (محمود) محاميا و(مسعود) مهندسا مدنيا . .
ثم كانت أروع لحظات حياتي وأكثرها تأثيرا حينما قمت بتزويجهم في حفل أسطوري كان حديث المدينة كلها !! . .
وحينما تقدمت في العمر وأخذت أمراض الشيخوخة تطرق بابي مثل الضغط والسكري والقلب خفت فقمت بتقسيم ممتلكاتي بينهم -ماعدا هذا البيت- وتسجيلها بأسمائهم بشكل رسمي قانوني . .
وندمت علي هذه الخطوة ولكن بعد فوات الأوان . .
فقد كان أولادي يفضلون زوجاتهم علي ولا يستمعون لأي نصيحة أقدمها لهم إلا إذا وافقن هن عليها !! . .
ونسبة لكبر سني فقد ازدادت احتياجاتي الصحية وبالتالي كان يجب عليهم توفير قدر أكبر من الرعاية والإهتمام بي . .
لكن زوجاتهم ضقن بي ذرعا وكن يتجاهلنني وحين أشكو إلي أولادي سوء معاملتهن لا أجد منهم سوي مبررات واهية !! . .
وأخيرا اجتمعوا بي ذات يوم وقال لي (مامون) وهو ينظر للأرض في خجل :
" لست أدري بماذا أو كيف سأبدأ ولكن رأت زوجاتنا أن أفضل مكان لك ستجد فيه أحسن رعاية ومتابعة طبية هو دار المسنين . . ونحن كما تعلم مشغولون بأعمالنا ولن نستطيع الإهتمام بك كما ينبغي لذلك تشاورت مع إخوتي ووجدنا أن رأيهن منطقي جدا . . ونعدك بأن نعيدك للمنزل بمجرد أن تتحسن ظروفنا العملية " . .
نظرت لهم مصدوما لفترة طويلة ثم قلت لهم بعزة وشموخ :
" دار للمسنين ؟! . . أبعد كل ما فعلته من أجلكم يكون هذا جزائي ؟! . . أتؤثرون زوجاتكم علي ؟! . . أهذا هو بر الوالدين ؟! . . لن أقبل بذلك أبدا . . أعيدوني لمنزلي وسأتدبر حالي بنفسي " . .
وقد كان . .
* * *
صمت حاج (محمد) للحظات ثم قال بحزن ومرارة والدموع تترقرق في عينيه :
" ومنذ ذلك الحين وطيلة العشر أعوام السابقة لم يقم أيهم بزيارتي ولو لمرة واحدة !! . . حتي أحفادي لم أرهم حتي الآن !! " . .
ثم صمت للحظات استجمع فيها شتات نفسه قبل أن يقول بخفوت :
" عدني يا ولدي أن تترك هذه المهنة فمالها حرام وليس هنالك أحسن من الكسب الحلال !! " . .
قال (سعيد) متأثرا وهو يمسح دموع حاج (محمد) بيديه :
" يا لقسوتهم !! . . أعاهدك أمام الله عزوجل ومنذ هذه اللحظة بأنني سأترك السرقة وأبحث عن عمل شريف . . وسأرعاك وأهتم بك وأزورك بإنتظام وأكون بمثابة إبن رابع لك بإذن الله تعالي " . .
و هكذا وفي (سعيد) بوعده وكان يزور حاج (محمد) بانتظام عدة مرات في اليوم . .
وفي إحدي زياراته وجد حاج (محمد) راقدا في سريرة وقد علت شفتيه ابتسامه وهو ينظر للسقف فابتسم (سعيد) بدوره وقال بلطف :
" هيا يا والدي فقد حان موعد الدواء " . .
لم يستجب حاج (محمد) . .
فتقدم نحوه (سعيد) وهزه بقلق قائلا بصوت عال :
" لقد أحضرت لك الدواء " . .
لم يستجب حاج (محمد) أيضا هذه المرة !! . .
فقط سقطت يده من السرير . .
حينها أدرك (سعيد) تلك الحقيقة المفزعة . .
لقد مات حاج (محمد) !! . .
مات دون أن يري أولاده أو أحفاده وينعم بقربهم !! . .
وجد (سعيد) بجوار سرير حاج (محمد) مظروفا مغلقا مكتوب عليه :
إلي ولدي (سعيد) . .
ففتحه (سعيد) بيد مرتجفة والدموع تسيل من عينيه بغزارة ليجد وصية موقعة وبها بصمة حاج (محمد) مكتوب فيها :
" أنا (...) المحامي وموثق العقود أشهد بأن المواطن (محمد أحمد) قد جاءني في يوم السبت الموافق (../../) بحالته الراهنة والمعتبرة شرعا ، وبكامل قواه العقلية ، قد أوصي بأن يصبح المنزل رقم (222) بمحلية (...) ، ملكا للمدعو (سعيد بابكر علي) بعد وفاته . . والله علي ما أقول شهيد " . .
إزداد (سعيد) بكاءا وهو يغلق عيني حاج (محمد) وقال بخفوت :
" اللهم اسألك له الفردوس الأعلي من الجنة . . لا تقلق سأبحث عن أبنائك وأخبرهم بوفاتك " . .
وقد كان . .
ولكنهم تعللوا بعدم قدرتهم علي استكمال مراسم العزاء والدفن وأن طائرتهم ستقلع بعد ربع ساعة متجهة إلي لندن لقضاء الإجازة هناك . .
نظر لهم (سعيد) بإزدراء وقام باستكمال كل الإجراءات . .
وفي صباح اليوم التالي قرأ في الصحف :
" تحطم طائرة بوينج 777 رحلة رقم (4444) المتجهة إلي لندن ووفاة جميع ركابها نسبة لحدوث عطل فني وإحتراق محركها الأيمن " . .
لقد كانت نفس الطائرة التي أقلت أبناء المرحوم حاج (محمد) الثلاثة وأسرهم !! . .
فقال (سعيد) وهو يطوي الصحيفة متأسفا :
" ألم يعلموا أن عقاب عقوق الوالدين يكون عاجلا في الدنيا وأن رضا الله عزوجل من رضا الوالدين !! . . يمهل ولا يهمل " . .
تمت بحمد الله . .