(1) الجندي.
(أخيراً، وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، في (أوروبا) على الأقل، بعد اندحار (المانيا) النازية، وانهيار الرايخ الثالث، وانتحار (أدولف هتلر)…
وكما تنقض الذئاب الجائعة على فريسة، طالت مطاردتها لها، برزت أنياب الحلفاء وهم ينهشون (المانيا) الجريحة، وراحوا يقسمونها فيما بينهم، باعتبارها غنيمة حرب، وفقاً لاتفاق مسبق، منح نصفها للسوفييت، والنصف الآخر لباقي الحلفاء (أميركا) و(انجلترا) و(فرنسا)…
والتقى الفريقان في منتصف( برلين) وبجرة قلم، انقسمت المدينة الألمانية العريقة، التي شهدت صعود وانهيار الرايخ الثالث، إلى قسمين، اختلفا فيما بينهما تمام الاختلاف، فأحدهما غربي الاسم والطابع، والآخر سوفييتي شرقي، يرتفع فوقه العلم الأحمر...
ومنذ تلك اللحظة، وقبل أن تحسم (أميركا) حربها مع (اليابان) بقنبلتيها الذريتين الشهيرتين، بدأت حرب جديدة أكثر شراسة، بين الكتلتين اللتين أفرزتهما الحرب، بسنواتها الست البغيضة، مع ما تغير من أمور كبيرة، في عالمنا وتاريخنا المعاصر.
ولقد تمثلت تلك الحرب، أول ما تمثلت، في سباق الفوز بالخبراء...
فعلى الرغم من العداء المستحكم الطويل، بين الجانبين والقيادة النازية، كان الأميركيون والسوفييت معاً يدركون جيداً، أن (المانيا) تمتلك جيشاً آخر، يفوق جيشها العسكري المقاتل الف مرة.
جيش من العلماء، والمفكرين، والمخترعين، والمبتكرين، ثم وهذا هو الأكثر أهمية وخطورة فريق نادر للغاية، في عالم الجاسوسية والمخابرات.
وكان السباق العنيف، الذي بدأت به الحرب بين الاميركيين والسوفييت، هو ذلك اشتعل، فور سقوط (المانيا)، للفوز بأكبر عدد ممكن من هذه الخبرات.
وبالذات الفوز برجال المخابرات الألمانية السابقين...
ولا أحد يمكنه أن يدعي ان احد الفريقين قد ربح هذه المعركة باكتساح...
فلقد انتهت الحرب بالتعادل، لو صح القول...
وانقسم رجال المخابرات النازية بين الفريقين، تماماً مثلما حدث مع العلماء، والمخترعين، وغيرهم...
وفي لهفة عجيبة، ونهم بلا حدود، راح كل فريق ينهل ممن فاز بهم إلى أقصى حد ممكن.
والحق يقال، إن العقول الالمانية كانت مدهشة ومتفوقة وخبيرة بحق، فقد أدى وجودهم إلى حدوث تطويرات ضخمة، في الجانب السوفييتي، وبالذات في مجال الحرب النفسية وحرب المخابرات.
وعلى الجانب الأميركي كان لهؤلاء الخبراء فائدة أضخم، إذ انهم كانوا النواة الأولى لتكوين جهاز المخابرات المركزية الأميركية، الذي نال فيما بعد شهرة عالمية واسعة، باعتباره أفضل وأقوى جهاز مخابرات في العالم.
وبعد استخدام (أميركا) لقنبلتيها الذريتين، اتسعت عيون العالم كله، في ذهول مذعور، والكل لا يصدق أنه هناك سلاحاً يمكنه ان يحدث هذا القدر الهائل من التدمير والخراب والقتل.
وانتفخت أوداج (أميركا) زهواً وغطرسة...
وانعقدت حواجب السوفييت غضباً وسخطاً...
واشتعلت الحرب الصامتة بين الفريقين أكثر وأكثر، وحملت إعلامياً اسم الحرب الباردة، وأصبح الشغل الشاغل لكل فريق هو تنمية قدراته العسكرية، وجمع أكبر قدر من المعلومات عن الفريق الآخر، في الوقت ذاته.
ثم بدأت على الجانبين عملية اصطياد الهاربين والمختفين، من ضباط وجنرلات الجيش النازي لمحاكمتهم كمجرمي حرب، والاستفادة مما لديهم من معلومات، لو أنهم كانوا يحتلون مناصب مهمة، خلال فترة الحرب.
وفي الوقت نفسه، الذي يتم فيه إعمار (برلين)، كان النازيون السابقون يتساقطون كالذباب، وتملأ أخبار سقوطهم الصحف الغربية والشرقية على حد سواء.
فيما عدا واحد، لم تذكر الصحف حرفاً واحداً عنه...
(رودلف ميلر)...
و(رودلف) هذا لم يكن جنرالاً من جنرالات الجيش النازي، أو واحداً من ضباطه الكبار، وإنما كان مجرد جندي...
جندي إشارة...
و(رودلف) لم يسقط في قبضة المخابرات الأميركية بخطة محكمة، وإنما فر اليها، من (برلين) الشرقية، وألقى نفسه في قبضتها، فراراً من القبضة الحديدية الدموية للحكم السوفييتي الرهيب.
ولأنه وقع في قبضة شرطة الحدود، على الجانب الغربي، وتولاه رعب هائل، من امكانية اعادته إلى السوفييت، وما يستتبعه هذا من استجوابات وتحقيقات، وتعذيب، وموت بشع في النهاية، فقد راح ذهنه الملتهب يبحث عن أية وسيلة للفرار من مصيره الأسود، ثم وجد نفسه يهتف فجأة:
- كنت جنديا للاشارة في الجيش النازي.
لم يبال رجال شرطة الحدود لحظة واحدة بعبارته هذه، وواصلوا عملهم، لملء كل الاستمارات والأوراق، اللازمة لإعادته إلى الجانب الشرقي، أو تقديمه للمحاكمة في الجانب الغربي.
وامتقع وجه (رودلف) المسكين، وراح جسده النحيل يرتجف في ارتياع، بعد أن تجاهل الكل تصريحه، الذي تصور انه كفيل بتفجير الموقف كله...
وفي محاولة يائسة أخيرة، أضاف:
- إنني أعرف أين أخفوا ملفات الشفرة السرية.
لم يكد ينطقها، حتى خيل إليه أن قنبلة قد انفجرت بغتة في المكان...
قنبلة من الصمت...
ففجأة، ومع آخر حروف عبارته، هوى على المكان كله صمت رهيب، واستدارت إليه العيون كلها في دهشة، سرعان ما تحولت إلى شيء من الاستنكار وعدم التصديق، قبل أن يغمغم أحد رجال الشرطة:
- أعتقد أن هذا يستلزم إبلاغ جهة عليا.
لم تمض ساعة واحدة، على قوله هذا، حتى وصلت إلى المكان سيارة سوداء كبيرة، هبط منها رجل طويل القامة، متين البنيان، اسود الشعر، ازرق العينين، وخلفه رجلان قويان، بدا من هيئتهما، وأسلوب سيرهما خلفه، انهما تابعان أو حارسان خاصان.
وبتظرة صارمة، تطلع اليه ذلك الرجل، قبل أن ينخرط في الحديث بعض الوقت، مع رجال شرطة الحدود بصوت لم يسمعه (رودلف) الذي راح عقله يطرح الف والف سؤال، حول هوية ذلك القادم وهدفه.
ثم ادار الرجل عينيه الزرقاوين اليه مرة أخرى، واتجه نحوه مباشرة، ووقف على بعد خطوات قليلة منه، يتطلع اليه في صمت، قبل أن يقول بغتة، بلغة المانية سليمة:
- ماذا كان عملك في الجيش النازي؟
ازدرد (رودلف) لعابه في صعوبة، ليتمتم:
- جندي اتصال وإشارة.
سأله الرجل، بلهجة صارمة جافة:
- أين؟!
أجابه (رودلف) بسرعة هذه المرة:
- في مقر قيادة (الجستابو).
هذا الجواب وحده أشعل الدنيا بحق، فما أن سمعه الرجل، حتى اعتدل بحركة حادة، والتقى حاجباه في شدة، وهو يتطلع إلى (رودلف) بنظرة طويلة قاسية، قبل أن يشير إلى حارسيه، قائلاً بلهجة آمرة صارمة:
- سنصطحبه معنا.
لم يدر (رودلف) ماذا حدث بالضبط، ولكنه شعر بذراعين قويتين تقبضان عليه، وتنتزعانه في مقعده، وتدفعانه نحو السيارة السوداء الكبيرة، وسمع ذا العينين الزرقاوين من خلفه، يقول لرجال شرطة الحدود في صرامة:
- كل ما يتعلق بأمره يتم محوه من السجلات فوراً... إنكم لم تروه أبداً... هذا أمر يتعلق بالأمن القومي.
وسقط قلب الألماني الشاب بين قدميه، عندما سمع العبارة، وعندما انحشر بين الحارسين الضخمين في المقعد الخلفي، ورئيسهما يجلس إلى جوار السائق، لتنطلق بهم السيارة على الفور.
وتضاعف ذعره وخوفه، عندما أحاط أحد الحارسين عينيه بعصابة سوداء، وهمس في أذنه بخشونة:
- لا تفتح فمك بكلمة واحدة.
وطوال ما يقرب من نصف الساعة، انطلقت السيارة في قلب (برلين) الغربية، ثم توقفت، وجذبه الحارسان خارجها في شيء من القسوة، ودفعاه أمامهما لعدة أمتار، قبل أن يرفع أحدهما العصابة عن عينيه.
وللوهلة الأولى، اغلق (رودلف) عينيه في قوة، مع الضوء الساطع في المكان، ثم لم يلبث أن فتحهما في حذر، ولكنهما اتسعتا بغتة عن آخرهما، على الرغم منه..
فما رآه أمامه كان مدهشاً...
وبكل المقاييس.).