سأُصاب بالجنون..
من المؤكد أنني في طريقي إلى هذا، بعد كل ما حدث..
أو أنني قد بلغت مرحلة الجنون بالفعل..
على الأقل هذا ما تؤكده الأوراق الرسمية، وشهادات هؤلاء الأطباء، الذين وضعوني في هذه الحجرة الضيقة، التي تحتل مرآة كبيرة أحد جدرانها، وأنا واثق من أنها مرآة مزدوجة، وأنهم يراقبونني من خلفها في اهتمام وانتباه كبيرين..
ولكنني لم أستسلم لمحاولاتهم..
وسأحتفظ بالحقيقة كلها لنفسي..
حقيقة ذلك القاتل..
لا يمكنكم أن تتصوّروا كيف بدأ الأمر، فقد كنت أفحص بقايا نيزك صغير، سقط منذ أسبوع واحد، في الصحراء الغربية، عندما وجدته أمامي فجأة..
لقد انبعث من قلب النيزك، كما ينبعث الدخان من المصباح، في قصة "علاء الدين" الشهيرة، وراح يتجسّد أمامي على نحو مذهل، جعلني أحدّق فيه في ارتياع كامل..
كان كياناً هلامياً شفافاً، يشبه الحيوانات الأميبية الأوّلية، ولكنه يتحرك في بطء وهدوء، ويُحيط بي كغلاف من بخار متجمّدٍ مخيف..
وعلى الرغم من عدم وجود تفاصيل جسدية واضحة له، فإنني شعرت وكأن عشرات العيون تطلّ منه، وتراقبني في اهتمام وإمعان، حتى إنني صرخت:
- ما أنت؟ وماذا تُريد مني؟..
ولكنه أطبق عليَّ فجأة..
ولست أدري ما إذا كان هذا المصطلح مناسباً أم لا؛ فهو لم يطبق عليَّ بالمعنى المفهوم، ولكنه اخترق كياني، وتسلَّل إلى وجداني كله دفعة واحدة، حتى كدت أشعر به في خلاياي وأنفاسي، وفي كل نبضة تنبعث من قلبي..
لقد امتزج بي تماماً..
نعم..
هذا هو المصطلح الصحيح..
امتزج بي..
وحاولت أني أصرخ..
حاولت ..
وحاولت..
وحاولت..
ولكنني لم أفعل قط..
كان ذلك الشيء يسيطر عليَّ تماماً،
ويعبث بأعماقي وعقلي كيفما يحلو له،
وينبش ذاكرتي في بطء وهدوء، وكأنه يلتهم ماضيَّ كله..
ثم فجأة أيضاً، غادر جسدي دفعة واحدة، وراح يتكوَّن أمامي..
واتسعت عيناه في ذهول..
وصرخت..
لقد تجسَّد في هيئة، هي نسخة طبق الأصل مني، حتى لم أعد أعرف أين هو،
وأين أنا..
حتى عندما تكلَّم، كان يحمل نفس صوتي، وهو يقول:
- أنت عالم جيولوجي.. إنني سعيد الحظ بالفعل.
تراجعت في سرعة، واختطفت مسدسي من درج مكتبي، وصوَّبته إليه، صارخاً:
- لست أدري ما أنت بالضبط؟ أو من أنت؟.. ولكنني سأقتلك في الحالتين.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة شيطانية مخيفة، وهو يقول:
- تقتلني أم تقتل نفسك؟
ارتبكت أمام سؤاله، وارتجف المسدس في يدي، وأنا أقول:
- ماذا تعني؟
هزّ كتفيه في هدوء، وقال:
- أنت تفهم ما أعنيه، فأنت نفسك لم يعد باستطاعتك التمييز.. إنك لا تثق تماماً بأنك أنت الشخص الحقيقي، وأنا القادم من بعيد.. ربما كنت أنت القادم من بعيد، وأنا الحقيقي.. أليس كذلك؟
كان سؤاله أشبه بالفلسفة السفسطائية، إلا أن عقلي ارتبك مع عباراته، ووجدت نفسي حائراً بالفعل..
من منا الأصلي، ومن المصنوع؟..
وأطلق هو ضحكة شيطانية مخيفة، وكأنما قرأ أفكاري، وقال:
- أرأيت؟.. لقد غصت في ذاكرتك حتى الأعماق، وامتصصت جزءاً من رحيق حياة كل خلية من خلاياك، وامتزج كياني بكيانك، ثم انقسمنا إلى كيانين متشابهين، ففيك جزء مني، وفيَّ جزء منك.
لم أشعر بالارتياح لحديثه، ولكني أحسست أنه على حق، بدليل تلك الحيرة التي تملأ كياني، وأنا أتطلَّع إليه، وذلك التردّد الذي أصاب سبَّابتي، وأنا أصوَّب إليه المسدس..
ولكن لا..
ينبغي أن أضغط الزناد..
لن أترك شيئاً شيطانياً كهذا حرّاً طليقاً، على سطح كوكبي..
أما هو، فقد بدا هادئاً لا مبالي، وهو يستدير إلى مكتبي، وينحني ليلتقط بعض الملفات السرية جداً، قائلاً في هدوء، وكأنه يزيد من ارتباكي:
- ومادمنا لا نعرف من أنت ومن أنا بعد، فلنخفِ هذه الملفات السرية، حتى لا يطّلع عليها أحدنا؟ ولا..
ولم أدعه ليتمّ عبارته..
لقد اختطفت جسماً ثقيلاً، وهويت به على مؤخرة رأسه، بكل ما أمتلك من قوة..
وجحظت عيناه لحظة، وهو يندفع إلى الأمام، ويرتطم بالمكتب، ثم يهوي على الأرض..
وبسرعة، انحنيت لأفحصه، وارتجف جسدي كله..
لقد مات..
لم يعد في جسده نبض أو نفس يتردَّد..
وراح جسدي يرتجف..
لقد قتلته..
قتلت ذلك الشيء القادم من الفضاء..
وتراجعت لأنكمش في ركن الحجرة، وأُحدّق في الجسد الملقى أمامي ذاهلاً، مرتجفاً، يسري التوتر والرعب في كل خليةٍ من خلاياي..
إنك لا ترى نفسك جثة هامدة، في كل يوم..
وهذا الشيء الراقد أمامي هو أنا..
أنا بكل ملامحي وتفاصيلي..
ولست أدري كم بقيت هكذا، صامتاً، ساكناً، منكمشاً، في ركن الحجرة، ولكنني انتبهت على صوت ضابط شرطة، يميل نحوي، قائلاً:
- أستاذ "ذهني".. أنا آسف، ولكنني مضطر لإلقاء القبض عليك.
تطلَّعت إليه لحظة في ذهول وشرود، قبل أن أسأله:
- لماذا؟
أشار إلى الجثة الملقاة، مجيباً:
- بتهمة القتل.
هممت بشرح الأمر كله، ولكنه استطرد على الفور:
- قتل مساعدك "منصور".
قفزت من مكاني، وأنا أهتف:
- قتل من؟!
كرَّر في أسى، وهو يتطلَّع إلى الجثة:
- مساعدك "منصور".. لماذا قتلته يا أستاذ "ذهني"؟.. لماذا؟
خُيّل إليَّ أن الضابط قد فقد عقله، فالجثة الملقاة أمامه هي جثتي أنا.. ليس هناك أدنى شك.. كيف لا يرى الملامح، والمعطف، واللحية القصيرة؟
إن مساعدي "منصور" حليق، نحيل، ضئيل..
ولكن الضابط كرَّر في شيءٍ من الحزم هذه المرة:
- هيا يا أستاذ "ذهني".. أنا واثق من أنه لديك تفسير لهذا..
صحت في وجهه:
- بالطبع لدي تفسير، ولكن..
وانهرت مستطرداً:
- من يصدقني؟
قال الضابط، وهو ينحني ليعاونني على النهوض:
- أخبرنا ما لديك، وأعدك أن نبذل قصارى جهدنا لتصديقك.
هتفت به:
- حقاً؟!.. هل ستصدّق أنني وجدت كياناً فضائياً في ذلك النيزك؟.. هل تصدّق أنه تجسَّد في هيئتي، وكاد يقتلني، لولا أن بادرت أنا بقتله؟
حدَّق في وجهي بدهشة بالغة، ثم غمغم:
- حسن يا أستاذ "ذهني".. حسن.. أخبرهم كل ما لديك أثناء التحقيق.
أزحت يده في حِدّةٍ، وأنا أهتف:
- أي تحقيق.. لقد أنقذتكم جميعاً.. أنقذت الأرض كلها من كيان قاتل.
جذبني في شيءٍ من العنف هذه المرة، وهو يقول:
- هيا يا أستاذ "ذهني".. إنهم ينتظروننا..
واتسعت عيناي في ذهول..
لقد رأيت من خلفه ذلك الشيء الشبيه بي، وهو ينهض جالساً، ويبتسم نفس الابتسامة الشيطانية المخيفة، ثم يصوّب مسدسه إلى الضابط..
وصرخت في ارتياع:
- احترس.
تراجع الضابط في دهشة، وهتف مستنكراً:
- ماذا تفعل؟
ودوت الرصاصات في الحجرة..
ورأيت الضابط يسقط جثّةً هامدة، والدماء تنزف من صدره وعنقه وجبهته..
أما ذلك الكائن الشيطاني، فقد أطلق ضحكة مخيفة وهو يقول:
- هل رأيت؟.. لن يصدَّقك أحد.
ثم عاد يرقد على ظهره جثة هامدة.
وصرخت بكل قوتي:
- أوقفوه.. أوقفوا ذلك القاتل..
ولكنهم اقتحموا الحجرة، وانقضوا عليًّ، ورحت أصرخ:
- ليس أنا أيها الأغبياء.. اقبضوا عليه هو.. هو..
ورحت أروي القصة، وأكرّرها مرات، ومرات، ومرات، والكل يستمع إليَّ في انتباه، ثم يتبادلون نظرات الدهشة والحيرة، ويدوّنون أشياء وأشياء في أوراقهم ومذكراتهم..
وفي النهاية، قرَّروا إيداعي مستشفى الأمراض العقلية، تحت الملاحظة..
وفي المستشفى جاء رئيسي لزيارتي وتحدَّث إليَّ طويلاً عن غاز خاص، تم العثور على بقاياه في قلب النيزك، وهو يسبَّب شيئاً من الجنون لمن يستنشقه..
ولكنني لم أصدّق حرفاً واحداً مما قاله..
إنه -كعادة كبار المسئولين- يخفي الحقيقة، بحجة عدم إصابة العامة بالذعر..
وانصرف الجميع عني، وقد أراحتهم فكرة الغاز والجنون..
ولكنني لست مجنوناً..
أنا عاقل..
بل أعقل مخلوق فيهم جميعاً..
ولكن المشكلة التي تؤرقني هي: من أنا؟..
أأنا الدكتور "ذهني" الحقيقي، أم ذلك الكائن الفضائي، الذي امتزج به؟..
لم أجد جواباً شافياً حتى هذه اللحظة، وربما بسبب ذلك الجسد البشري، الذي يعوق حركة مادتي الغازية..
ربَّما لو تحرَّرت منه، لصار الجواب أيسر وأسهل..
ربَّما..