الفصل الأول
على الرغم من السكون والهدوء، اللذان يخيًَّمان على تلك المنطقة، فى صحراء (مصر)، والتى تتوسط منطقة حظر واسعة، أقيم حولها سور كهربى خاص، فى دائرة نصف قطرها ثلاثة كيلو مترات، وأحيطت بحراسة كثيفة مشدًَّدة، إلا أن المشهد داخل ذلك المبنى الكبير، المكًَّون من ثلاثة طوابق، فى مركز دائرة الحظر بالضبط، كان يختلف تمام الاختلاف ...
كانت هناك حالة من نشاط غير مسبوق، حتى بالنسبة للمكان، الذى كان عبارة عن مركز أبحاث عسكرى خاص، يعمل على تطوير الأسلحة الدفاعية، والسعى لتأمين سماء (مصر)، من أية محاولة للاعتداء ....
وفى قاعة كبيرة، أقيمت لاختبار الأسلحة الجديدة، وقف ضابط يحمل رتبة لواء، خلف حاجز سميك، من زجاج مضاد للانفجار، يراقب مجموعة من العلماء، انهمكوا فى إعداد ومراجعة بيانات جسم بيضاوى ضخم، توًَّسط القاعة، واتصل بعدد كبير من شاشات الكمبيوترات الهولوجرامية المتطوًَّرة، التى يجلس أمامها فريق ضخم من الفنيين ....
وفى حماس واضح، قال كبير علماء المركز، موجهاً حديثه إلى اللواء :
- فور تشغيل هذه الطاقة الجديدة، ستدرك جيداً، يا سيادة اللواء، أن سماء (مصر) ستصبح منيعة، إلى حد يستحيل اختراقه.
غمغم اللواء، فى قلق لم يحاول أن يخفيه :
- سنرى .
أومأ كبير العلماء برأسه، قائلاً بنفس الحماس :
- نعم ... سنرى.
كان من الواضح أن فريق العلماء قد انتهى من عمليات المراجعة والفحص الأخيرة، واتجه كل منهم إلى موقعه، خلف زجاج مماثل، يصنع حلقة واسعة، حول ذلك الجسم البيضاوى، وعلى شاشة رقمية كبيرة، بدأ عد تنازلى، يشير إلى أن التجربة ستبدأ، بعد أقل من خمس دقائق....
وبينما يتوالى العد التنازلى، قال اللواء، فى شئ من الصرامة :
- هل أجريتم عملية تمثيل افتراضية للنتائج ؟!
أجابه كبير العلماء، وهو يومئ برأسه إيجاباً :
- بالتأكيد، ففور عمل الجهاز، ستنطلق منه دفقة هائلة من الطاقة، فى شكل قمعى، بحيث تنتشر فى مساحة هائلة، من السماء فوقه، تغطى مائة ضعف مساحة قاعدته.
تمتم اللواء، على الرغم من معرفته الجواب مسبقاً:
- ثم ؟!
تابع كبير العلماء، وكأنه لم يسمع تمتمته:
- تلك الطاقة ليست طاقة حرارية، أو حتى كهرومغنطيسية، بل هى طاقة سلبية جديدة، توًَّصلت إليها قريحة أفضل علمائنا، وهى لا تطلق الحرارة، بل تمتص كل أنواع الطاقة، الحرارية والحركية، وحتى الكهرومغنطيسية.
ألقى اللواء نظرة أخرى على ذلك الجسم البيضاوى، ثم نقل بصره إلى الشاشة الرقمية، التى أشارت إلى أربع دقائق وبضع ثوان، قبل بدء التجربة، وقال فى خفوت صارم :
- وفقاً للتقارير، فهذا سيجمًَّد أى جسم، يحاول عبور المنطقة، داخل الشكل القمعى السلبى .
أشار كبير العلماء بسبًَّابته، قائلاً بحماسة البالغ :
- بالضبط ... الطاقة السلبية ستفقد المجال حرارته تماماً، ولو حاول أى جسم عبورها، سيفقد طاقته أولاً، ثم يتجمًَّد بعدها تماماً، كما لو أنه قد سقط بغتة، فى مركز القطب .
تمتم اللواء، وعيناه تتابعان شاشة العد التنازلى:
- ويسقط .
هزًَّ كبير العلماء رأسه، مجيباً :
- هذا أمر طبيعى، مع توقّف أجهزته، وتثاقل وزنه.
التقط اللواء نفساً عميقاً، فى محاولة لتهدئة ثائرته، قبل أن يكرًَّر بنفس ذلك التوتر :
- سنرى.
كان العد التنازلى يقترب من دقيقتين، عندما بدأ ذلك الجسم البيضاوى ينفرج من قمته فى بطء؛ ليتحوًَّل إلى ما يشبه طبق استقبال هوائى ضخم، وشهد مركزه فوراناً عجيباً من الأضواء، أشبه بعاصفة ضوئية صغيرة، جعلت اللواء يكرًَّر مرة أخرى، فى توتر أكثر :
- نعم ... سنرى .
فى نفس اللحظة، التى نطق فيها عبارته، كان طاقم حراسة منطقة العزل يستوقف ثلاث سيارات صاروخية عسكرية كبيرة، ممتلئة بالجنود، عند حافة الأسوار الكهربية، وأشار قائد طاقم الحراسة للسيارات بيده، وهو يقول فى صرامة :
- هذه المنطقة محظورة أيها السادة .
هبط إليه قائد فريق السيارات، وهو يبرز تصريحاً رقمياً خاصاً، قائلاً :
- نحن هنا بناءً على أوامر عليا؛ كفريق تأمين إضافى؛ نظراً لحساسية التجربة .
راجع قائد طاقم الحراسة ذلك التصريح الرقمى، بوساطة جهاز خاص فى يده، قبل أن يقول بنفس الصرامة :
- ولكننا لم نتلق أية تعليمات بقدومكم .
أجابه قائد فريق السيارات فى حزم :
- لست أدرى لماذا لم تصلكم التعليمات، ولكن يمكنك الرجوع إلى سيادة اللواء؛ لتأكيد موقفنا .
لم يضع قائد الحراسة لحظة واحدة، وأجرى اتصاله مباشرة باللواء، الذى أجابه فى صرامة متوترة، دون أن يرفع عينيه عن شاشة العد التنازلى، التى أشارت إلى دقيقة وعشرين ثانية، قبل بدء الاختبار، فى نفس الوقت، الذى راح فيه سقف القاعة ينفتح فى هدوء :
- هذا صحيح ... إنهم هنا كتأمين إضافى للمبنى ... اسمح لهم بالدخول .
وبناءً على تعليماته، أوقف قائد طاقم الحراسة عمل السور الكهربى الأمنى، فى تلك المنطقة، وأشار إلى السيارات الثلاث بالدخول، وقال وهو يعيد تشغيل السور الأمنى خلفهم :
- وفقاً لسيادة اللواء، فمهمتكم تقتصر على تأمين المبنى فحسب، و ....
قبل ان يتم عبارته، اخترقت رأسه من الخلف بغتة، دفعة من أشعة الليزر القاتلة الصامتة، أطلقها قائد فريق السيارات، وهو يقول، فى شئ من السخرية :
- مهمتنا تفوق هذا بكثير يا رجل .
قبل حتى أن يسقط قائد طاقم الحراسة أرضاً، كان جنود السيارات الثلاث، يرفعون حواجزها، ويطلقون بنادق الأشعة القاتلة على الجنود، اللذين باغتتهم المفاجأة، فانطلقت من بنادقهم طلقة أو أثنتين، قبل أن ينتهى أمرهم تماماً ...
وفى هدوء، وكأنه لم يرتكب مذبحة بشعة قبل لحظات، سأل قائد فريق السيارات رجاله :
- هل من إصابات ؟!
أشار أحدهم إلى أقرب زميل له، وهو يجيب :
- إصابة واحدة فى ذراعه .
ألقى القائد نظرة على إصابة ذراع الجندى، وهو يسأله :
بم تشعر ؟
غمغم المصاب بلغة غريبة :
- وكأن جسدى يشتعل .
مطًَّ القائد شفتيه، وكأنما الأمر لا يعنيه، واستدار عائداً إلى سيارة المقدًَّمة، وهو يشير إلى الآخرين، قائلاً :
- هيا .
انطلقت السيارات الثلاث، وأحد الجنود يحاول وضع كيس كبير من الثلج، على ذراع زميله، الذى لم يكن مبالغاً، عندما قال : إن جسده يشتعل ...
فمع الدخان الخفيف، الذى تصاعد من موضع جرحه، والآلام الشديدة، التى ارتسمت على ملامحه، كان جسده يشتعل ....
بالفعل ...
أما هناك، فى تلك القاعة داخل المبنى، فقد كانت شاشة التوقيت تشير إلى أقل من دقيقة واحدة، قبل بدء التجربة ...
وفى تململ واضح، غمغم اللواء :
- لو سار كل شئ على ما يرام، سيغيًَّر هذا الكثير من الأمور .
أجابه كبير العلماء فى انفعال :
- بالتأكيد ... ستصبح (مصر) أكثر أمناً .
رمقه اللواء بنظرة جانبية، وهو يقول :
- ليس (مصر) وحدها .
أراد كبير العلماء أن يسأله، عما يعنيه هذا، إلا أن الصوت الرقمى للعد التنازلى ارتفع، معلناً عشر ثوان، على بدء التجربة، فى حين أشارت شاشات المتابعة إلى تأجج الطاقة السلبية، وإن بدا هذا ملحوظاً، مع عنف تلك العاصفة الضوئية، فى مركز ذلك الجسم، الذى صار عبارة عن قرص مستدير، يدور حول مركزه فى سرعة متزايدة، وعجلة تصاعدية كبيرة ...
ثم، وعند بلوغ الصفر، انطلق من مركزه قمع الأشعة السلبية، بلون أزرق باهت، عبر سقف القاعة المفتوح عن آخره ...
وكان المشهد مبهراً بحق ...
لقد بدا وكأن قمعاً من الضوء قد اندفع إلى السماء، ليغطى مساحة هائلة منها، بلونه الأزرق الباهت، محيلاً ظلام الليل إلى نهار عجيب، وكأنه نهار كوكب آخر ...
كان هناك أزيز متصل فى المكان، جعل كبير العلماء يرفع صوته، وهو يهتف بكل انفعاله :
- الآن ستنطلق الطائرات التجريبية ...
كان هناك ثلاث طائرات بلا قائد، تنطلق بالفعل نحو القمع الضوئى السلبى، وكل فريق العلماء تقريباً يتابعها فى توتر، عبر شاشات هولوجرامية كبيرة فى القاعة ...
وخلال ثوان، دخلت الطائرات الثلاث منطقة الطاقة السلبية ...
وفور دخولها، سجًَّلت الأجهزة كلها انسحاب طاقتها بسرعة مدهشة، ثم تجمًَّد كل أجهزتها تماماً، حتى أنها أحيطت بغلاف سميك من الثلج، ساعد على سقوطها بسرعة خرافية، حيث انفجرت كلها، على مسافة كيلو متر واحد من المبنى ...
وفى القاعة، دوًَّت صرخة فرح عارمة من الجميع؛ لنجاح التجربة، وصاح كبير العلماء، فى انفعال فاق انفعاله السابق، وهو يلتفت إلى اللواء :
- أرأيت ؟!... أنها تجربة ناجحة بكل المقاييس .
بدا اللواء شديد البرود، وهو يقول :
- سيغيًَّر هذا عالمكم بالتأكيد .
تراجع كبير العلماء فى دهشة بالغة، وهو يغمغم :
- عالمنا ؟!
اتسعت عيناه بكل رعب الدنيا، عندما أخرج اللواء من حزامه سلاحاً عجيب الشكل، صوًَّبه إليه، وهو يقول شيئاً ما ...
شئ كان يستحيل أن يفهمه كبير العلماء ...
أو أى مخلوق أرضى ...
وقبل أن ينطق كبير العلماء حرفاً واحداً، ضغط اللواء سلاحه، فانطلقت منه فقاعة صغيرة، لم تكد ترتطم بجسد الرجل، حتى انفجرت بقوة، ودفعته أمامها ليرتطم بالزجاج المضاد للانفجار فى عنف، ثم يسقط جثة هامدة ...
وفى اللحظة نفسها تقريباً، اقتحم جنود السيارات الثلاث القاعة، وانطلقت من أسلحتهم فقاعات مماثلة، راحت تنفجر فى كل مكان، وتطيح بالجميع بلا رحمة، وتعالت الصرخات، مع محاولة الكل الفرار ...
ولكن هذا استغرق دقيقة واحدة ...
دقيقة ساد الصمت بعدها تماماً، إلا من ذلك الأزيز، الذى راح يخفت تدريجياً، والجهاز ينضم مرة أخرى، مستعيداً شكله البيضاوى...
وفى حركة عجيبة، ذات طابع عسكرى، وقف قائد فريق السيارات أمام اللواء، ووضع قبضته على صدره، وهو يقول، بتلك اللغة العجيبة :
- تمت المهمة بنجاح.
رمقه اللواء بنظرة صامتة صارمة، وغادر موقعه، وهو يلقى نظرة أخيرة على ذلك الجسم البيضاوى، الذى التف حوله رجاله، واتجه فى هدوء واثق إلى خارج القاعة، وهو يقول بنفس الصرامة، ونفس اللغة :
ماذا عن الإصابات ؟!
تبعه قائد فريق السيارات، مجيباً :
- إصابة واحدة .
كانا قد وصلا إلى حيث تقف السيارات الثلاث، فألقى اللواء نظرة على الجندى المصاب، والذى احترق جسده بالكامل، وبدت هيئته عجيبة مخيفة، وقال :
- لقد فقد غلاف التبريد الواقى إذن .
أومأ قائد فريق السيارات برأسه، مجيباً بتلك اللغة :
- نعم ... مع إصابة ذراعه.
لم يبد عليه الاهتمام الشديد بالمشهد، وكأنما خلت نفسه من المشاعر، وتجاوزه متجهاً إلى السيارة الأخيرة، وهو يقول :
- هل (الفروزا) جاهزة ؟!
أجابه قائد فريق السيارات من خلفه :
- بالتأكيد .
دلف اللواء إلى السيارة الأخيرة، حيث استقر فى منتصفها حوض عجيب الشكل، يشع منه ضوء باهت، ويغطيه غلاف سميك من مادة أشبه بالزجاج، وقال :
- بعد كل هذا، أحتاج إلى بعض الاسترخاء .
قالها، ورقد بثيابه داخل ذلك الحوض، وأغلق الغطاء شبه الزجاجى خلفه ...
وفى بطء، راح الضوء داخل الجهاز يزداد، مع تراكم الثلج على غلافه الداخلى، ثم على الجزء السفلى من غلافه شبه الزجاجى، وسجًَّل المؤشر خارجه انخفاضاً كبيراً فى درجات الحرارة، إلى ما دون الصفر بكثير، ولكن اللواء بدا شديد الاسترخاء، وهو يسبل جفنيه فى استمتاع، مغمغماً بلغته العجيبة :
- مع هذا السلاح الجديد، سرعان مايصبح هذا العالم مناسباً لشعبنا .
وابتسم قائد فريق السيارات، وهو يراقب الحوض العجيب، الذى كسته الثلوج تماماً ...
وكانت ابتسامة غير آدمية ...
على الإطلاق .
* * *