تندلع النيران من مستصغر الشرر ..
هذه العبارة صحيحة تماماً بالنسبة لكل نيران تشتعل لسبب منطقى ، بوساطة عود ثقاب ، أو ماس كهربى ، أو حتى احتكاك حجرين بعضهما ببعض ، أو لأى نيران مشتعلة أخرى ..
فيما عدا نيران نادى (دومينيون) للجولف ..
هذه النيران بالذات تتبع قاعدة أخرى ..
قاعدة تقول أن النيران تشتعل بسبب (اللا سبب) ..
نعم .. إنك لم تخطئ قراءة الكلمة ..
إنها تشتعل بلا سبب ..
لقد بدأ هذا فى ديسمبر من عام 1941 م ، فى نادى (دومينيون) الريفى الجديد للجولف ، الذى يقع خارج مدينة (وندسور) البريطانية ، وفى تمام الواحدة صباحاً كان أحد رواد النادى يستعد للعودة إلى منزله ، عندما ذهب ليلتقط معطفه من حجرة حفظ المعاطف ، ولكن مدير النادى رآه يعدو خارجاً من الحجرة ، وهو يهتف أن ودقة قد اشتعلت أمامه بغتة ، فى قلب الحجرة ، دون سبب ، أو سابق إنذار ..
تصور (نيكولاس هوايت) صاحب ومدير النادى أن الرجل قد أشعل الورقة من باب الخطأ ، ولكنه يدعى قصة اشتعالها المباغت خشية تحمل مسئولية ما قد يسفر عنه هذا ، فحمل أسطوانة إطفاء الحريق ، وأسرع نحو حجرة المعاطف .. وقبل أن يبلغ الحجرة سمع أحد السقاه يصرخ قائلاً : إن النيران قد اشتعلت بغتة، فى واحد من مفارش الموائد ..
وأسرع (هوايت) يطلق السائل الرغوى على المائدة المشتعلة ، ثم استدار ليذهب إلى حجرة المعاطف ، ولكن ساق آخر صرخ يعلن أن مائدة أخرى قد اشتعل مفرشها بغتة ..
وأمام عينى مستر (هوايت) الذاهلتين المذعورتين ، راحت كل مفارش الموائد تشتعل ، واحداً بعد الآخر ، دون سبب مفهوم .. فبذل (هوايت) أقصى جهده ليعبر حالة الذعر والذهول هذه ويأمر رجاله بإلقاء المياه ، الموضوعة داخل دوارق الشرب ، فوق المفارش المشتعلة ..
وأطاع الرجال الأمر ..
وانطفأت النيران ..
وأخيراً وجد مستر (هوايت) الفرصة ليذهب إلى حجرة المعاطف ، ويطلق السائل الرغوى على بقايا الورقة المشتعلة ..
ثم ألقى جسده على أقرب مقعد إليه ..
وفى حيرة تمتزج بالكثير من الذهول تساءل الرجل عن سر ما يحدث فى ناديه، واتجه عقله على الرغم منه إلى لعبة الجاسوسية والتدمير ، خاصة وأن هذه الفترة كانت توافق مرحلة التهاب الصراع البريطانى الألمانى ، فى الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945 م) ، إلا أن هذا لم يلبث أن فجر فى أعماقه مزيداً من الحيرة ، فلم يكن ناديه يشبه أو يحمل شبهة كونه هدفاً عسكرياً يستحق التدمير ، أو حتى يحتمل تجربة عسكرية شيطانية ..
وفجأة انتزعه من أفكاره صراخ فى مطبخ النادى ، فقفز من مقعده ، وركض إلى المطبخ ، ولم يكد يفتح بابه حتى تراجع كمن صعقه تيار كهربى ..
كان يتوقع ما رآه ، وعلى الرغم من ذلك فقد هوى قلبه بين قدميه لرؤيته ..
كانت كل مناشف المطبخ مشتعلة تندلع منها ألسنة اللهب ..
وبسرعة نزع (هوايت) ورجاله المناشف ، وألقوها وسط المطبخ ، وأغرقوها بالسائل الرغوى ..
وفى هذه المرة ، وعلى الرغم من انطفاء النيران ، أمر (هوايت) رجاله بملء كل ما لديهم من أوعية بالماء ، إذ شعر أن لعبة النيران هذه لم تنته بعد ، وأنها ستمتد طويلاً ..
وفى هذه المرة أيضاً ، قرر (هوايت) الاستعانة برجال الإطفاء ، فصعد إلى الطابق الثانى من النادى ، حيث مسكنه ومكتبه الخاص ، وأخرج دليل الهاتف من درج مكتبه ، و …
وفجأة اشتعلت النيران فى الدليل ..
وبكل الذعر ، ألقى (هوايت) الدليل أرضاً ، وراح يضربه بقدميه ليطفئ نيرانه، حتى أتى عليها ، وهنا سمع زوجته تناديه فى اضطراب ، وقد أزعجتها هذه الضوضاء المباغتة ، التى ملأت النادى كله ..
وأسرع (هوايت) إلى حجرة زوجته ، فى محاولة لتهدئتها ، ولكنه لم يكد يبلغ حجرتها حتى اشتعلت النيران فى ستائر الحجرة وأُصيبت الزوجة بالرعب ..
وكانت ليلة ليلاء ..
لقد راحت النيران تشتعل من حجرة إلى أخرى ، و (هوايت) ورجاله يعدون خلفها ، وهم يحملون أوعية المياه ، واسطوانات الإطفاء ، ويلهثون من فرط الجهد والذعر والذهول والحيرة ..
وعندما وصل رجال الإطفاء كان (هوايت) ورجاله قد أخمدوا ثلاثة وأربعين حريقاً بالفعل ..
وانتقلت الدهشة إلى رجال الإطفاء ، عندما سمعوا ما حدث من أفواه العاملين بالنادى ، وحضر إلى المكان بسرعة خبير شركة التأمين ، لتقرير الخسائر وتقديرها..
ورفض خبير شركة التأمين تماماً تصديق قصة (هوايت) ورجاله ، خاصة وأن قائد رجال الإطفاء أبدى تشككه الشديد فى هذا الأمر ، الذى لم ير له مثيلاً فى عمره كله ..
وراح (هوايت) يبذل أقصى جهده لإقناع الرجلين بصحة ما حدث فى حين انهمك رجاله فى تنظيف المكان ..
وفجأة اشتعلت النيران فى مكنسة أحد الرجال أمام أعين الجميع ..
وفغر قائد رجال الإطفاء فاه فى دهشة ..
واتسعت عينا خبير التأمين فى ذهول ..
واكتظ المكان فى اليوم التالى بعشرات الخبراء والباحثين ..
وحصل (هوايت) على قيمة التأمين ..
وبقى الخبراء يفحصون ويدرسون ويمحصون ..
وظل سر النيران غامضاً ، يأتى من أعماق المجهول ..
ومن وراء العقل ..
***