بدأ كل شئ بداية حسنة ، مع شروق شمس ذلك اليوم ، فى الثلاثين من يونيو عام 1908 م وخرجت حيوانات الرنة سعياً وراء رزقها ، وساق المزارعون ماشيتهم إلى الحقول ، وتركوها ترعى هانئة طيلة النهار ، و …
وفجأة وقعت الكارثة ..
فى تمام الخامسة ، وسبع عشرة دقيقة بالضبط دوى الانفجار ..
كتلة هائلة من اللهب ارتفعت من وادى نهر (تانجسكا) فى أصقاع (سيبيريا)، وأضاءت نصف الكرة الأرضية تقريباً ، فى انفجار رهيب مخيف ، لم ير العالم مثيلاً له قط ، إلى يومنا هذا ..
الإنجليز أمكنهم قراءة الأحرف الصغيرة من جريدة (التايمز) فى منتصف الليل ..
فى (استوكهولم) التقطوا عدداً من الصور الضوئية ، دون وميض ، فى قلب الليل ..
الألمان حظوا بنهار دام أكثر من أربع وعشرين ساعة ..
الهولنديون عجزوا عن رصد النجوم ، بسبب الضوء المبهر ..
وفى (روسيا) نفسها كان وقع الأمر أعظم وأخطر ..
لقد أكد مزارع ، كان يجلس على بُعد ستين كيلو متراً من موقع الانفجار ، أنه شعر بلفح النيران ، ورأى كرة هائلة من اللهب تصعد إلى السماء ، ثم ألقاه الانفجار بعيداً ، وأطاح بسقف منزله ..
وسرى الرعب فى العالم أجمع ، وراح الجميع يتساءلون عن هذا الانفجار الغامض ، الذى بدا لهم - آنذاك - وكأنه الخطوة الأولى ، فى طريق فناء العالم، من هول ما رأوا ..
ولكن العجيب أن أحداً فى (روسيا) القيصرية لم يتحرك ، للبحث عن سبب حدوث هذا الانفجار العجيب ، إذ كان الجميع وقتها منشغلين بتلك الاضطرابات السياسية ، التى سادت البلاد ، واستمرت تتفاقم ، حتى اندلعت الثورة البلشفية
عام 1917 م ..
وفى عام 1921 م بدأ عالم سوفيتى يدعى (ليونيد كوليك) ، أو ل بحث فعلى وجاد عما أطلق عليه الجميع اسم (انفجار سيبيريا) ..
وعثر (كوليك) على صحيفة قديمة ، تصف ذلك الانفجار الكبير ، قائلة :
- شاهد الفلاحون جسماً شديد الإضاءة ، يهبط من السماء فى الشمال الغربى، بميل واضح ، وبدا لهم الجسم أسطوانياً منتظماً ، وعندما بلغ ذلك الجسم سطح الأرض انسحق ، وتكونت سحابة هائلة من الدخان الأسود ، ثم دوى صوت انفجار ألف ألف مدفع جبار ، واهتزت القرية كلها ، وتصور الجميع أنها نهاية العالم ..
والتقط (كوليك) طرف الخيط من هذا الوصف ، الذى نقلته الصحيفة عن شاهد عيان ، وراح يدرس الحادث كله ، ويحاول البحث عن تفسير منطقى له ، ثم لم يلبث أن خرج بدعم من أكاديمية العلوم السوفيتية عام 1927 ، فى أول رحلة علمية جادة للبحث عن أسباب الانفجار الغامض ..
ويا لها من رحلة ! ..
لقد اجتاز (كوليك) (سيبيريا) كلها بالقطار ، حتى (تيشيت) ، ثم واصل رحلته بالجياد والزحافات حتى بلغ (فانافارا) ، آخر المناطق المأهولة ، قبل أن يغوص مع قافلته فى (التايجا) ..
و(التايجا) هى المنطقة المجهولة من (سيبيريا) ، كما يسميها السوفيت ، والتى ظلت تثير فى قلوبهم الرعب ، حتى بعد أن أقاموا فيها بعض المدن الحديثة ..
وبعد شهر كامل ، شاب فيه شعر (كوليك) ورجاله ، وسط صقيع (سيبيريا) الرهيب ، بلغ (كوليك) نهر (ميكيرتا) ، حيث رأى أول علامة من علامات الانفجار..
كانت الأشجار فى المنطقة قد اقتلعت من جذورها عن آخرها وتراصت على نحو منتظم ككتيبة عسكرية لقيت مصرعها ، فى أثناء طابور الصباح ، وكل قممها تتجه إلى الجنوب الشرقى ..
وكلما توغل (كوليك) أكثر ، بدت علامات الدمار أكثر شدة وبشاعة ..
حتى أشجار (التيجا) الهائلة اقتلعها الانفجار من جذورها وصفها على النحو نفسه، فى اتجاه الجنوب الشرقى ، وجذورها تشير إلى الشمال الغربى ، حيث مركز الانفجار حتماً ..
ولكن الرجال رفضوا الاستمرار ..
ما رأوه ملأ قلوبهم بالرعب والهلع ، فأصروا على العودة ، ولم يملك (كوليك) سوى الانصياع لهم ، فعاد والحسرة تملأ قلبه ، إلا أنه لم يلبث أن حصل على مرافقين جُدد ، فعاود الكرة فى يونيه ، حتى بلغ هذه المرة منطقة تعرف باسم (المراجل) ..
وهناك خفق قلبه فى شدة ..
كان كل شئ يشير إلى أنه الآن فى مركز الانفجار ..
كل شئ ..
ومن فرط حماسه وانفعاله راح (كوليك) يضع تقريره ، الذى أكد فيه أن ما حدث فى (تانجسكا) هو أن نيزكاً هائلاً من الصلب هوى على المكان وانفجر ، فسبب كل هذا الدمار ..
وحتى مصرعه على أيدى النازيين فى الحرب العالمية الثانية كان (كوليك) مطمئناً إلى أنه وجد حل اللغز وأنهى المشكلة ..
ولكن هيهات ..
الحرب العالمية الثانية نفسها ، وضعت افتراضاً جديداً للانفجار الغامض فى (سيبيريا) ..
وخصوصاً بعد قنبلة هيروشيما ..
لقد لاحظ بعض العلماء وجود تشابه واضح بين انفجار (تانجسكا) وآثار قنبلة (هيروشيما) ..
ففى مركز الانفجار - فى الحالتين - كان التدمير أقل نسبياً من الأطراف ، كما أن بعض الأشجار بقيت واقفة فى المركزين ، وكلا الانفجارين ارتفع عمود اللهب والدخان ، على شكل فطر (عش الغراب) ، وفى كليهما نبتت النباتات بسرعة ، بعد فترة قصيرة ..
الفارق الوحيد أن عمود الدخان واللهب قد ارتفع لمسافة أعلى كثيراً ، فى حادث (سيبيريا) ، كما لو أنه كان أقوى ألف مرة من قنبلة (هيروشيما) ..
ومع طـرح فكـرة التشابه ، بدأ فريق من العلماء يدرس الأمر من منظور آخر ..
وكانت النتائج مدهشة ..
كانت هناك تغيرات وراثية عنيفة فى نباتات وحشرات (سيبيريا) فى المنطقة التى حدث فيها الانفجار ، وقروح واضحة على أجسام الحيوانات ، تماماً كما حدث فى (هيروشيما) بعد الانفجار ..
الشئ الجديد فى انفجار (سيبيريا) هو أن العلماء عثروا هناك على أنواع من (السليكا) تحوى فى قلبها فقاعات هوائية كتلك التى يتم رصدها بالتحليل الطيفى للأجسام الفضائية ، وعلى قطع من الفسفور النقى ، المستحيل وجوده فى الطبيعة، وعناصر نادرة جداً ، مثل (اليوتربيوم) ..
وصار من الواضح أن ما حدث فى (تانجسكا) كان انفجاراً نووياً ، بشكل أو بآخر ..
بل لقد أثبت العلماء أن الانفجار لم يحدث عند ارتطام جسم ما بالأرض ، بل حدث قبل أن يبلغ هذا الجسم الأرض ، وبالتحديد على ارتفاع ثمانية كيلو مترات من الأرض ..
ومع هذا الإثبات الجديد ظهرت نظرية جديدة تبناها الأكاديمى السوفيتى (زولوتوف) ..
ونظرية (زولوتوف) تعتمد على أقوال أكثر من سبعمائة شاهد عيان ، أكدوا أن الجسم المنفجر تحرك أفقياً ، أو على نحو شبه أفقى ، من الجنوب الشرقى إلى الشمـال الغربى ، وكأنه يجرى مناورة مدروسة ، قبل أن يهوى إلى أسفل ، وينفجر ..
وبناءً على الشهادة ، أعلن (زولوتوف) إيمانه بأن هذا الجسم الذى انفجر فى (تانجسكا) كان سفينة فضاء قادمة من عالم آخر ، وتستخدم الطاقة النووية فى تسييرها ، وأن ركابها أدركوا أنها ستنفجر لا محالة ، فاتجهوا بها نحو منطقة غير مأهولة ، لتنفجر دون أن تؤذى سكان الأرض ، وكل ما عثر عليه العلماء فى المنطقة هو بقايا المركبة بعد انفجارها .
وهذا التفسير ، على الرغم مما يبدو عليه من خيال جامح ، يرضى أصحاب العقول المنطلقة ، إلا أنه منطقى للغاية، من الناحية العلمية والعملية ، ويحمل الحلول لكل عوامل الغموض ..
ولكن البعض يرفض هذه النظرية أيضاً ، وبإصرار ، مثل العالم (أ.جاكسون)، وزميله (ب. رايان) اللذين وضعا نظرية جديدة تقول أن أحد الثقوب السوداء ، ذات الحجم الدقيق ، هو الذى ارتطم بالأرض ، وأحدث هذا الانفجار الهائل..
ثم خرج (س. أتلورى) ، و (ف. ليبى) من (كاليفورنا) بنظرية المادة المضادة، التى سبحت فى الكون وسقطت على الأرض ، وانفجرت ..
كل هذا إلى جانب الفكرة البسيطة ، التى طرحها (كوليك) والتى أيدها بعض العلماء بالفعل ، حتى يومنا هذا ، مع تطوير جوهرى ..
فكرة النيزك ..
أو المذنب ..
والمذنب يختلف عن النيزك فى أنه يجر خلفه ذيلاً طويلاً (ومن هنا كان اسمه) يتكون من الغازات المتجمدة ، أو المحفوظة ، إلى جوار كميات من الغيار، والغاز، والجليد ..
وبعض العلماء يفترضون أنه - ولأول مرة فى التاريخ كله - سقط مذنب على (تانجسكا) عام 1908 م وفعل كل ما فعل ..
وفى دراسة حديثة ، ظهرت فى الثمانينات ، أجمع عدد من العلماء الأمريكيين على أن انفجار (تانجسكا) لم يكن الأول من نوعه ، على سطح الأرض ، بل كان هناك انفجار آخر منذ ما يقرب من خمسة وستين مليون عام ، أدى إلى فناء الديناصورات ، وأفسح المجال لنا نحن البشر لننمو ونتطور ، وأنه سيكون هناك انفجار آخر فى زمن قادم ، ربما يقضى علينا ويفسح المجال لأحفادنا .. أو أحفاد أحفادنا ..
ولكن أياً كانت النظريات ..
وأياً كانت الأسباب ، فهناك حقيقة واحدة مؤكدة ..
أنه كان هناك انفجار هائل كبير فى (تانجسكا) ، ما يزال يحمل حتى اليوم اسم (انفجار سيبيريا) ..
أو الانفجار الغامض ..