في حداثتي، ومع بداية توغلي في عالم الرواية المصرية الساحر، جذبتني بشده عبارة قصيرة، أوردها الأديب الأستاذ (إحسان عبد القدوس) في بداية روايته الشهيرة، الوسادة الخالية التي تحولت إلى فيلم أكثر شهرة..
" في حياة كل منا وهم كبير، يسمى: الحب الأول.. لا تصدق هذا الوهم.. أن حبك الأول هو حبك الأخير!! "
أيامها بالطبع لم أتوقف طويلاً أمام العبارة، ولم أحاول مناقشتها أو تفنيدها ؛ فما دام الأستاذ (إحسان) كتبها، فهي صحيحة حتمًا!!
ثم مرت بي الأيام، وأصابني ما يصيب كل شباب الدنيا..
أحببت..
أحببت حبي الأول، وعشت فيه بكل كياني، وجوارحي، وعواطفي، وحتى أحلامي
وفي ذلك الحين فقدت التمييز، بين خفقات قلبي، ونبضات حبي.. ولفترة طويلة، خلتهما قد امتزجا، واختلطا، وصارا كيانا واحدًا لا ينفصم..
وكلما وقع بصري علي محبوبتي - آنذاك - كان قلبي يصرخ بحبها، وأطرافي ترتجف بعشقها، وأنفاسي لا تتنسم سوى هواها..
فقط هواها..
وتصورت أن ذلك الحب سيبقى في قلبي إلى الأبد، ولن يفارقه لحظة واحدة، مادام في صدري نفس يتردد..
ولأن الظروف لم تكن تجمعني بحبيبة قلبي الصغير، إلا لمدة شهر واحد كل عام، فكنت أقضى الأحد عشر شهرًا الأخرى في وله، وهيام، وأحلام، وخيال يرسم ألف صورة وصورة للقاء المرتقب، مع نسمات الصيف القادمة..
والطريف أن كل هذا كان يدور في أعماقي وحدي، لأن محبوبتي لم تكن تفكر حتمًا بالأسلوب نفسه..
ولا بالعاطفة نفسها..
صحيح أن ابتسامة كبيرة كانت تملأ وجهها كلما التقينا، ولكنها نفس الابتسامة، التي كانت تمنحها للآخرين، ذكورًا كانوا أو إناث..
ابتسامة عذبة، طيبة، هادئة، كانت أول ما خلب لُبى بشأنها..
ولست أدرى حتى كيف ذهب كل هذا؟!
كيف تبخر الحب كله دفعة واحدة، ما بين صيف وأخر!!
كل ما أذكره هو أنني قد استيقظت فجأة، في ليلة من ليالي الشتاء، لأجد نفسي غارقًا في حب أخرى، يفصلها عن منزلي شارع واحد..
وهذه ليست سيرة ذاتية، بقدر ما هي صورة لما يكون عليه قلب أي شاب صغير، وهو يخوض تجربة حبه الأولى..
ولقد تطورت شخصيتي، ودخلت عليها عشرات التعديلات، خلال سنوات عمري التي تجاوزت الأربعين، والتي شهدت عدة صور من الحب، قبل أن أتوقف ذات يوم، وأعيد قراءة عبارة الأستاذ (إحسان عبد القدوس) مرة ثانية..
وفي تلك المرة الثانية، وجدت نفسي أقف أمام العبارة حائرًا بحق..
فما الذي يعنيه الأستاذ (إحسان) بالضبط؟!
أمن المحتم حقًا أن يكون الحب الأول مجرد وهم؟!
ثم ماذا عن الحب الأخير؟!
ما المقصود بأن الحب الأول هو الحب الأخير؟!
العبارة، من الناحية اللغوية، تقبل معنيين متناقضين تمامًا..
فمن الممكن أن تعنى العبارة أن الحب الوحيد الصادق، في حياة كل مخلوق، هو حبه الفطري الأول، والذي يتم بتلقائية وحرارة، على نحو لا يمكن أن يتوافر في أي حب تال، مهما بلغت قوته، إذ أنه الخفقة الأولى، في قلب كل محب، والتي تقفز به، من عالم الطفولة، إلى عالم الصبا والشباب واقتحام الحياة..
باختصار، الحب الأول وحده الذي ينتزع عذرية القلب، على نحو لا يتكرر، ولا يمكن أن يتكرر قط..
أو أن العبارة تعنى أن الحب الأول هو الحب الحقيقي، الذي استقر أخيرا في الوجدان، وتغلغل في الكيان، بعد أن اختبر القلب الدنيا، وخاض تجاربها، ثم أدرك في النهاية ما هو الحب؟!
وكيف يحب..
ومتى يدرك أنه أحب..
وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ما زلت عاجزًا عن، الجزم، بما كان يعنيه الأستاذ (إحسان) بالضبط من عبارته، إذ أنه وحده - رحمه الله - كان باستطاعته تحديد ما يرمى إليه..
ولكنني، وحتمًا، وبكل ثقة، أختلف، مع أستاذي تماما في اعتبار أن الحب الأول مجرد وهم..
الحب الأول هو أول حب..
ربما ينسى المرء من أحبها، أو تنسى الواحدة من أحبته، بعد أن يفصلهما القدر لسنوات وسنوات، ولكنهما لو التقيا لحظة واحدة، لانزاحت في رأس كل منهما كل ذكريات الدنيا، فيما عدا أن من أمام كل منهما هو حبه الأول..
ربما يفتقر إلى العوامل القوية، اللازمة لبقاء واستمرار أي حب..
ولكنه لن يصبح أبدا أي حب..
إنه أول حب..
ربما ينسى المرء أنه أحبها، وما، من قوة،يمكنها أن تنتزع عنه هذا اللقب أبدًا..
هذا لا يعنى بالطبع أنه سيستمر، أو يبقى، أو حتى يترك أثرًا في قلب صاحبه، ولكن من المؤكد أنه لن يمضى دون أن يترك خلفه ما يرشد إليه، إذا ما دعت الحاجة إلى هذا..
ربما يترك ضحكة..
أو ابتسامة..
أو حتى لمحة حزن..
المهم انه لن يذهب أبدا..
فتشوا في أعماقكم بصدق وإخلاص، وستكشفون أنني على حق..
حبكم الأول هناك، في بؤرة مظلمة من أعماق أعماق قلبكم، ينزوي هناك صامتا، لأنكم تخشون مجرد استرجاعه، حتى لا يفسد هذا حبكم الحالي..
أو حتى القادم..
وأول حب في حياة الإنسان يمنحه نشوة ما بعدها نشوة في حينه، ثم ينتهي دوما على نحو مباغت، أو غير متوقع..
ففجأة، يرتبط الطرف الثاني بأخر..
أو يبتعد..
أو حتى ينتقل إلى مكان أخر..
المهم أن أول حب لا يمكن أن يستمر، إلا في حالات بالغة الندرة، إلى حد يكاد يقارب المستحيل..
وهذا أمر حتمي، حتى تستمر الحياة وتتواصل..
لابد أن يتجاوز الشخص - أي شخص - محنة الحب الأول هذه، فالأشخاص الذين يعيشونها أكثر مما ينبغي، تصيبهم العقد النفسية، والمنغصات المعنوية، ويبدأ حاضرهم ومستقبلهم في التآكل رويدًا رويدًا، فلا يعود لهم من حياتهم كلها سوى الماضي.. والماضي وحده..
وما لا يدركه هؤلاء المساكين هو أن مشكلة، الحب الأول الرئيسية هي المقاييس والمعايير..
فالمقاييس التي يتم اختيار المحبوب الأول بها تتناسب حتما مع العمر الذي يتم فيه هذا الاختيار..
ومع معايير مرحلة المراهقة..
فمع تفتح زهرة القلب لأول حب، تنتبه العين إلى المعايير الشكلية في المقام الأول.. وتنبهر بسرعة..
تنبهر بالجمال، والوسامة، ولون العينين، ونعومة الشعر..
لهذا نجد أن المراهق ينشغل دومًا بالجميلات، والمراهقة تهيم عشقًا بكل وسيم..
ولهذا أيضًا يبدأ الشباب فجأة في الاهتمام بشكلهم الخارجي ورائحتهم، وحلاوتهم وحتى خفة ظلهم..
ولأن مقاييس الاختيار هنا سطحية ومباشرة أكثر مما ينبغي، فمن غير المنطقي أو العملي أن يتواصل هذا الحب أو يستمر..
حتما سينهار وينتهي.. مع أول شعاع من شمس النضج..
أو حتى يتفتت تحت وطأة شكل وسامة، أو وجه أكثر جمالاً وحلاوة..
وهنا يتلقى القلب أول صدمة عاطفية..
صدمة فشل الحب..
أو بمعنى أكثر دقة، صدمة حقيقة ذلك الحب الهش..
ورد الفعل هنا مهم جدًا..
وخطير جدًا..
فقليلون هم من يتجاوزون هذه الصدمة بسرعة، ويلقونها خلف ظهورهم، ويمضون في حياتهم، ليغسلوا جراح أول حب، إما بحب آخر، أو بعمل وجهد ونشاط..
أما الغالبية العظمى، فتقضى وقتًا طويلا،ً في البكاء على الحب الوهمي الضائع، والعاطفة الزائفة المسكوبة..
وبعد فترة - تطول أو تقصر - تتجاوز النسبة الأعظم، من المجموعة الأخيرة هذه المحنة..
أما مَن يبقى، فهو الضحية التي تستحق الرثاء بحق..
الضحية التي ترفض الخروج من المحنة، وتتشبث بها، وتمضى شطرًا طويلاً من عمرها في البكاء، والغضب، والنقمة على الطرف الأخر، الذي لم يدر أبدًا - ربما - ما دار في قلبه يومًا ما..
الضحية التي تهدر حاضرها ومستقبلها، من أجل حب وهمي مضى، فتنقم، وتحزن، وتثور، بل وربما تخطط لانتقام ما أيضًا..
كل هذا خطأ في خطأ..
هذا لأن أول حب هو مجرد تجربة لنبض القلب، وتحرير المشاعر، وإشعال العواطف والأحاسيس..
ولكنه ليس نهاية الحياة..
أنه فقط البداية..
البداية لقلب جديد، تجاوز على التو مرحلة مرح وعبث الطفولة، ووثب منها إلى مرحلة شباب وانطلاق وحرارة..
مرحلة يأتي فيها حتمًا حب آخر..
وآخر..
وآخر..
وكلما مضت أيام العمر، اختلفت مقاييس ومعايير الحب، وظهرت للقلب أنواع جديدة، وألوان جديدة من الحب، و..
ولهذا حديث آخر.