| مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 8:57 pm | |
| أنا رجل مخابرات.. واحد من آلاف، في كل أنحاء الأرض، ينتمون إلى عالم خاص .. خاص جدًا .. عالم سري، غامض، لا مكنك أن تتجاوز الأسوار المحيطة به قط .. لا يهم من أنا .. ما جنسيتي .. أو إلى أية دولة أنتمى .. فالقواعد واحدة، في كل الأحوال .. القواعد اللازمة لتصنع رجل مخابرات .. رجل يمكنه أن يصنع من نفسه درعًا، لحماية دولة بأكملها .. إذا ما استلزم الأمر .. ولا تتصور حتى أن مذكراتي هذه قد تصنع منك ذلك الرجل .. فمهما حوت، لن تتجاوز كونها مجرد كلمات .. مجرد مذكراترجل .. مخابرات. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 8:58 pm | |
| 1- البداية:
لست أدرى أية نقطة، ينبغي اعتبارها بداية كل شئ !
أية مرحلة في حياتي، يمكن اعتبارها لحظة تكوني الحقيقية كرجل مخابرات ..
أهى تلك الأيام في حداثتي، التي كنت أطالع فيها روايات الجاسوسية بمنتهى الشغف، والتي كنت أقف خلالها في طابور طويل، أمام دار العرض السينمائي، القريبة من منزلي؛ لمشاهدة أحدث أفلام ذلك العميل السري البريطاني الشهير، الذي كنا نتابع صراعاته العنيفة في انبهار، وهو يخوض عشرات المعارك على الشاشة، مع أشرار من كل نوع، يسعون للسيطرة على العالم، وكأن السيطرة على دولة واحدة، أو حتى قارة كاملة، ليست حلم العباد أو غاية المراد ..
في تلك الفترة، تصورت أن هذا هو عالم المخابرات ..
مواجهات، وصراعات، وحسناوات، ورصاصات، ومطاردات، وانفجارات، وأطنان من النيران، تملأ حياة البطل، حتى كلمة النهاية، دون أن تلسعه شرارة واحدة منها ..
وكما يحدث لكل من في مثل سني - آنذاك - رحت أسأل الكبار في حماسة عن كيفية انضمامي إلى ذلك العالم المثير، والكل إما أن يبتسم ساخرًا، أو مشفقًا، أو يجيبني إجابات باهتة، غامضة، مبهمة، زادتني غضبًا وحماسة، ولهفة إلى ذلك العالم المبهر ..
ثم تقدم بي العمر، وبدأ اهتمامي بروايات وأفلام الجاسوسية يقل، مع مولد اهتمامات أخرى، وتفاصيل حياتية مختلفة، حتى لم أكد أنتهى من المرحلة الثانوية، إلا وقد فتر اهتمامي بهذا الأمر تمامًا ..
أو هكذا تصورت ..
فجزء ما من أعماقي، كان يحمل تلك الرغبة، في جزء دفين من عقلى الباطن، لم أشأ الاعتراف به أبدًا، على الرغم من أنني قد بذلت جهدًا خرافيًا، لإقناع والدي بقبول التحاقي بإحدى الكليات العسكرية، بدلا من الكلية المرموقة، التي تمنت والدتي دومًا التحاقي بها، متصورة أنها ستقودني إلى مستقبل لامع، شبيه بمستقبل خالها، الذي تملأ أخباره الصحف والمجلات، وتطالعنا صورته كل حين وآخر، على شاشة التلفاز، ليتحدث برصانة عن آخر وأحدث الكشوف العلمية والطبية ..
ولم يكن الأمر سهلا ..
ولكنني، والحق يقال، قاتلت بكل قوتي ..
وبكل ذكائي أيضًا ..
فبطبيعة شخصيتي، كنت أدرك أنه من المستحيل أن تهزم الأفكار بالقوة ..
مهما كانت الأفكار ..
ومهما بلغت القوة ..
وعلى الرغم من معارضة والدي الشديدة، وغضب أمي العنيف، انتهت المعركة لصالحي، وخاصة بعد نجاحي في تجاوز الكشوف والفحوص الطبية والرياضية اللازمة، وقبول التحاقي بتلك الكلية العسكرية ..
ورفضت أمي توديعي، وأنا في طريقي، إلى يومي الأول بالكلية، في حين ابتسم أبي ابتسامة باهتة، وهو يتمنى لي التوفيق فيما اخترت.
وكانت البداية ..
أو يمكننا اعتبارها البداية الثانية، التي راودني شعور عجيب، وأنا أتجه إليها، بأنها ستغير حياتي كلها .. تمامًا ..
والواقع أن كل ما تلا هذا كان يؤكد أنني لم أٌخلق إلا لهذا النوع من الحياة ..
لقد توافقت بسرعة، مع طبيعة الحياة العسكرية الصارمة في الكلية، وتعايشت معها على نحو أدهش رؤسائي قبل زملائي، بل ورحت أتطور فيها بسرعة ملفتة للنظر ..
ملفتة للنظر بحق، وليس كتعبير مجازي ..
وهذا ما أدركته فيما بعد ..
وفي أول إجازة لي، استقبلتني أمي بكل لهفة الدنيا وشوقها، وغمرتني بأطنان من حبها وحنانها واهتمامها، على نحو جعلني أدرك أن غيابي قد فاق غضبها وانتصر عليه، وأنها قد استسلمت أخيرًا لاختياري ..
ولا يمكنكم أن تتصوروا كم ملأ هذا نفسي بارتياح غامر، جعلني أنام ملء جفنىَّ، في كل ليلة احتواني فيها فراشي القديم ..
ولكن المدهش أنني، وعندما حان موعد عودتي إلى الكلية، كنت عائدًا إليها بشوق عجيب، كما لو أنني قد ارتبطت بتلك الحياة ارتباطًا وثيقًا، تغلغل في كياني، وجرى في عروقي مجرى الدم ..
ومع مرور الأيام والأسابيع والشهور، كان ارتباطي بالحياة العسكرية يتضاعف أكثر وأكثر، وتفوقي في المجالات الرياضية يلفت الانتباه، مع شهادة التقدير التي حصلت عليها، في مجال الرماية ..
وعلى الرغم من هذا التفوق، كانت لدى اهتمامات أخرى، لا يشاركني فيها سوى قلة نادرة من الزملاء، مثل تعلم اللغات وبعض المهارات البسيطة، في أوقات الفراغ وساعات الراحة ..
وكان هذا أيضًا معروفًا ..
وملحوظًا ..
لم أكن أدرى أيامها أن مراحل التقييم تبدأ، من هذه الفترة المبكرة، وأنه هناك عيون ترصد لمحات التفوق، في كل المجالات ..
وكل الكليات ..
فلا أحد يخبرك، أو ينبهك، أو حتى يبدي اهتمامه في وضوح ..
كل شئ يتم بدقة، وحرفية، ومهارة مدهشة، تفوق بكثير ما كنا نراه على الشاشة في حداثتنا ...
المهم أن أعوام الكلية قد انقضت بسرعة، وبدأت عملية توزيعنا على أفرع الجيش المختلفة وفقًا لمهاراتنا، وقدراتنا، وأمور أخرى عديدة، لم يتم الإفصاح عنها قط في حينها ..
وعلى الرغم من هذا، فقد استدعاني مدير الكلية، قبيل حفل التخرج ببضع ساعات، واستقبلني بابتسامة هادئة في مكتبه، وهو يسألني: - هل تعلم إلى أى سلاح سيتم توزيعك؟!
لم أشعر بالارتياح للسؤال، خاصة وأنه كان هناك رجل في ثياب مدنية، يجلس على المقعد البعيد، في نهاية الحجرة، ويتطلع إلىَّ في اهتمام هادئ، إلا أنني، وعلى الرغم من كل شئ شددت قامتي، مجيبًا بلهجة عسكرية قوية: - إلى القوات الخاصة.
لاحظت اتساع ابتسامة المدير، وتلك النظرة التي تبادلها مع ذلك المدني، والتي لم تستغرق سوى ثانية واحدة، قبل أن يسألني مرة أخرى: - ولماذا توقعت هذا؟!
أجبت في سرعة: - بسبب التكوين الجسماني، والتفوق الرياضي، ووسام الرماية.
تراجع المدير في مقعده، وشبك أصابع كفيه أمام صدره، في شئ من الزهو، في حين أومأ المدنى برأسه، متمتمًا: - عظيم.
وأمرني المدير بالعودة إلى ثكنتي، دون أن يشرح لي سبب أسئلته، وتركني في حيرة من أمري، وأنا أتساءل: لماذا لم يحدث هذا لغيري؟!
ثم لماذا يحدث؟!
ولم أجد جوابًا لسؤالي هذا ..
أى جواب !!
ولقد تم توزيعي في القوات الخاصة بالفعل ..
وفي منطقة نائية بعيدة أيضًا ..
ولقد انزعجت والدتي بشدة، مع بعد المسافة، واقترابها من الحدود، في الوقت الذي يلوح فيه شبح الحرب على الأبواب، ولكنني ابتسمت لها، وهدأت من روعها، وأخبرتها أنها مجرد فترة محدودة، أعود بعدها إلى العاصمة ..
وعلى الرغم من أنني كنت أجهل كل المعلومات، إلا أنني لم أكن كاذبًا ..
فمهما طال بقائي في القوات الخاصة، عند خط المواجهة، فهى فترة محدودة حتمًا .. فترة تنتهى بانتقالي ..
أو حتى بمصرعي ..
أما عن عودتي إلى العاصمة، فقد تصورت أيامها أنه لابد من دفني فيها، في حالة مقتلي، باعتباري من أبنائها ..
مجرد تصور ..
وعند خط المواجهة، كانت التدريبات أكثر قوة ..
وأكثر عنفًا ..
وأكثر تطورًا ..
وكانت هناك مناوشات، بيننا وبين العدو ..
مناوشات بسيطة أحيانًا ..
وعنيفة معظم الوقت ..
وبينما تتطور الأمور، وتشتعل أكثر وأكثر، فوجئت بإشارة عاجلة، تطلب مني العودة إلى العاصمة فورًا ..
ودون توضيح الأسباب ..
وعلى الرغم من عدم ارتياحي لترك خط المواجهة، في ظروف كهذه، كان من المحتم أن أطيع الأوامر، دون أية مناقشة ..
لذا، فقد سافرت فورًا على العاصمة ..
وفي مكان تم تحديده بأسلوب معقد، لم يمكنني هضمه، التقيت بذلك المدنى نفسه، الذي رأيته في مكتب مدير الكلية العسكرية، منذ ما يقرب من العام ..
كان يجلس وحده، في حجرة واسعة كبيرة، لا تحوى سوى مكتب قديم، خلفه مقعد من الخشب، أشبه بتلك المقاعد التي نراها في مشارب الطرقات، وأمامه مقعد من الطراز نفسه، أشار إليه المدني، وهو يقول في هدوء، لم يخل من صرامة حازمة: - اجلس أيها الضابط.
جلست أمامه مشدود القامة، كما علمونا في الكلية العسكرية، ولكنه ابتسم، قائلا بنفس الهدوء: - يمكنك أن تسترح.
كان مطلبًا عسيرًا، في تلك الظروف، التي لم أشعر فيها بالارتياح أبدًا، وأنا أبذل جهدًا مضنيًا؛ للسيطرة على توتري وأعصابي، مع ذلك الصمت المطبق، الذي لذت به، حتى سألني ذلك المدني، وهو يتأملني في اهتمام: - هل يروق لك عملك؟!
أجبته في حذر: - بالتأكيد.
سألني: - لماذا؟!
أدهشني سؤاله، على الرغم من مباشرته وبساطته، وجعلني ألوذ بمزيد من الحذر، وأنا أجيب في تحفظ: - إنه وسيلة لخدمة الوطن، في مثل هذه الظروف.
تراجع في مقعده، وهو يسألني: - أكل ما يهمك هو أن تخدم وطنك؟!
بلغ حذري مبلغه، وأنا أجيب: - إنني أحب عملي.
قال في سرعة: - نعلم هذا.
أدهشتني، وضاعفت من توتري، صيغة الجمع التي استخدمها، والسرعة التي نطق بها كلماته، فانعقد حاجباى في شدة، جعلته يبتسم ابتسامة خفيفة، تلاشت في سرعة، وهو يقول: - إننا نتابعك منذ فترة .. من قبل حتى أن تحمل أول رتبة عسكرية على كتفيك.
رددت في دهشة عصبية: - تتابعونني؟!
أومأ برأسه إيجابًا، فهتفت: - ومن أنتم بالضبط؟!
تطلع إلىَّ طويلا في صمت، وكأنه يتعمد أن يثير توتري إلى أقصى حد؛ كوسيلة لدراسة ردود أفعالي، قبل أن يعتدل في مقعده، قائلا: - إننا نعرض عليك العمل معنا.
قلت، في مزيج من الحذر والتوتر والدهشة: - معكم؟!؟ ولكنني ضابط بالجيش، وواجبي أن ....
قاطعني في حزم صارم: - واجبك سيظل كما هو .. فقط ستتغير الوسيلة، التي تقدمه للوطن بها.
ثم مال نحوي أكثر، وحمل صوته طنًا من الحزم والعزم، وهو يتطلع إلى عينىَّ مباشرة، مستطردًا: - ستظل تقاتل العدو، ولكن ليس بسلاحك وعضلاتك.
ورفع سبابته؛ ليشير إلى رأسه، مضيفًا: - بل بعقلك.
الطريقة التي نطق بها الكلمة الأخيرة، جعلت تيارًا كهربيًا قويًا يسرى في كياني، وجعلتني أنتفض في مقعدي، وأنا أهتف، بكل حماسة الدنيا: - حياتي فداء للوطن.
تألقت عيناه، وهو يتراجع مرة أخرى في مقعده، وقفزت إلى شفتيه ابتسامة، استقرت لشعر ثوان كاملة هذه المرة، قبل أن يستعيد هدوءه الصارم الحازم، وهو يفتح درج المكتب القديم، ويلتقط منه عدة ورقات مطبوعة، وضعها مع قلم حبر أمامي، وهو يقول: - قم بملء كل البيانات .. وبمنتهى الدقة.
وعلى الرغم من أنني لم ألق المزيد من الأسئلة، فقد التقطت القلم والأوراق في حماسة وحزم، و ...
وكانت هذه هى البداية ..
الحقيقية. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 8:59 pm | |
| 2-عالم بلا حدود:
منذ اليوم الأول، بل منذ اللحظات الأولى، لالتحاقي بهذا العالم العجيب، راحت الأحداث تتوالى بسرعة مدهشة، وبإيقاع جعل أنفاسي تتلاحق، عن نحو لم يحدث لي من قبل قط ..
كان من الواضح أنهم لا يحتاجون إلى إجراء أية تحريات بشأني، قبل قبولي وسط صفوفهم، وأنهم قد أجروا بالفعل كل التحريات اللازمة، قبل أن أضع توقيعي على أوراق الالتحاق ..
ففور التوقيع على طلب الالتحاق، نهض ذلك المدني من خلف مكتبه، وارتسمت على وجهه الوسيم ابتسامة عريضة، وهو يلتقط ذراعي في رفق، قائلا: - الآن يمكننا البدء أيها الزميل.
لسبب ما - وقتها - بدا لي مصطلح (الزميل) هذا عجيبًا، وغير مألوف على الإطلاق، إلا أنني، وربما للسبب نفسه، لم أعترض أو أعلق، وإنما تركته يقودني إلى مكتب آخر أكثر اتساعًا، حيث استقبلنا رجل قوى البنية، حازم الملامح، نهض يستقبلني، قائلا في شئ من الصرامة: - مرحبًا بك بين الصفوف.
وعندما تصافحنا، شعرت بقوة أصابعه على راحتي، وهو يتابع: - اليوم ستعرف المكان، وتلتقى بالزملاء، وتتعلم مبادئ عملك الجديد، واعتبارًا من السابعة، من صباح الغد، ستلتحق بمدرسة المخابرات.
لم يرق لي استخدامه لفظ (مدرسة) هذا؛ فقد بدا لي أنه لا يتناسب قط مع عمري وخبراتي ..
إلا أنني، وفي هذه المرة أيضًا، لم أناقش أو أعترض ..
شئ ما في أعماقي، جعلني أدرك أنهم يعرفون جيدًا ما ينبغي فعله ..
حتى بالنسبة لي ..
وعندما غادرنا مكتب ذلك الحازم، ربت الهادئ على كتفى، قائلا: - أفضل ما ينبغي أن تفعله الآن، هو أن تلقى خلف ظهرك كل ما تعلمته في الماضي، وأن تعتبر نفسك تلميذًا مستجدًا، في عالم جديد، ينبغي أن تبذل قصارى جهدك، لاستيعاب كل قواعده وأسراره.
قالها، ونحن ندلف إلى مكتب صغير ..
صغير إلى درجة مدهشة ..
كان مجرد حجرة مربعة، لا يزيد طول ضلعها على مترين ونصف المتر، بها مكتب صغير بسيط، خلفه نافذة كبيرة، مغطاة بستارة من شرائح البلاستيك، وأمام المكتب مقعدان صغيران، والباب في مواجهته مباشرة، وإلى جوار الباب دولاب وثائق تقليدي، ولكنه مغلق بقفل ضخم ..
وعندما لاحظ الهادئ أنني أتطلع في فضول إلى باب صغير، يجاور المكتب، ربت على كتفى مرة أخرى قائلا: - هناك حجرة نوم صغيرة وحمام، ملحقان بهذا المكتب، فالأمر يحتاج أحيانًا إلى عمل متواصل.
أومأت برأسي متفهمًا، وأنا أغمغم في حذر: - أعلم هذا.
ابتسم ابتسامة واسعة أخرى، ثم أشار إلى سطح المكتب، قائلا في حزم: - هذا الجهاز الصغير خاص بالاتصالات، وستجد في درج المكتب ورقة تحوي تعليمات تشغيله، وأرقام المكاتب والجهات، التي تحتاج إلى الاتصالات بها داخليًا.
جلست خلف المكتب، غير مصدق أنني قد أصبحت وحدة في المنظومة، التي حلمت طيلة عمري بالانضمام إليها، في حين غادر الهادئ الحجرة، وهو يشير بيده، قائلا: - في الدرج الآخر، ستجد كتيب القواعد الأساسية .. استوعبه جيدًا؛ فسيفيدك كثيرًا، في المرحلة القادمة.
وعندما أغلق الباب خلفه، وتركني وحدي، داخل حجرة مكتبي الصغيرة، وجدت نفسى ألتقط نفسًا عميقًا، وأسترخي في مقعدي، أو أحاول هذا على الأقل، وعقلي ينطلق بعيدًا ..
بعيدًا جدًا ..
إذن فقد أصبحت بالفعل رجل مخابرات ..
أصبحت واحدًا منهم ..
وفي ذهني، ارتسمت عشرات الصور والمشاهد، لكل ما شاهدته في أفلام السينما القديمة والحديثة، عن رجل المخابرات، وطبيعتهم، وعملياتهم، و ....
قاطعتني فجأة دقات هادئة، على باب حجرتي الصغيرة، فانتزعتني من أفكاري دفعة واحدة، وجعلتني أعتدل على مقعدي، قائلا بلهجة، حملت حتمًا شيئًا من انفعالي: - أدخل.
مرت لحظة عجيبة من الصمت، تصورت خلالها أن الطرقات التي سمعتها كانت مجرد هلاوس سمعية، صنعها خيالي المحموم، إلا أن الباب لم يلبث أن تحرك في بطء، ليظهر خلفه رجل نحيل، له ملامح أشبه بالقنفذ، وصوت رفيع حاد رصين، انطلق من بين شفتيه، وهو يقول: - معذرة، ولكنك تحتاج إلى هذه.
تنحنحت، في محاولة للتغلب على توتري، وأنا أقول: - تفضل .. إننى أحتاج لمعرفة ألف شئ هنا.
لم يعلق على عبارتي بحرف واحد، وهو يتقدم نحو مكتبي الصغير، ويناولني بطاقة تحمل رقمًا كبيرًا واضحًا، وشريطًا ممغنطًا على جانبها، وهو يقول، بنفس الرصانة الحازمة: - هذه تتيح لك الحركة، في حدود النطاق المسموح به.
كررت خلفه، في حيرة حذرة: - النطاق المسموح به؟!
أجاب في سرعة ورصانة: - كل شخص هنا، يتمتع بحرية الحركة، من خلال نطاق خاص، وفقًا لموضعه ووظيفته، وصلاحياته الأمنية.
سألته في حيرة أكبر: - وكيف أعرف النطاق الخاص بي؟!
أجاب بنفس السرعة: - لا داعى لأن تعرف.
حدقت فيه بدهشة مستنكرة، فتابع مفسرًا: - البطاقة ستعرف.
بدا لي الجواب مبهمًا في البداية، وأكثر إثارة للحيرة، إلا أنه سرعان ما شرح لي أن ذلك الشريط المغناطيسي، في جانب البطاقة، يحوي شفرة كودية خاصة، وتلك الشفرة تحدد الأماكن المسموح بدخولها، بحيث تنفتح أبوابها، فور تمرير البطاقة في جهاز خاص يتصل بها، في حين لا تستجيب الأبواب غير المسموح بعبورها للأداء نفسه ..
وأعترف بأنني قد انبهرت بالفكرة، التي بدت لي - عندئذ - عبقرية، ولقد بدا انبهاري هذا واضحًا حتمًا، وأنا أسأله: - وماذا لو أنه لا توجد أبواب؟!
ولأول مرة منذ رأيته، لمحت على شفتيه شبح ابتسامة، وهو يقول: - في هذه الحالة لا توجد موانع.
قالها وجه القنفذ، دون أن يزيد حرفًا واحدًا، ثم غادر الحجرة في سرعة ورصانة، اتضح لي فيما بعد أنهما جزء أساسي في شخصيته، وتركني وحدي، في حجرتي الصغيرة، أفحص البطاقة الصغيرة، التي لا تحتوي اسمى أو صورتي، أو ....
"هل تسمح لي بالدخول؟!"
فوجئت بالصوت داخل الحجرة، فرفعت عينىَّ إلى صاحبه بحركة حادة، ووقع بصري على رجل عريض المنكبين، باسم الثغر، أشار بملف في يده، وهو يقول بلهجة أقرب إلى المرح، لا تتناسب قط مع ضخامته: - لقد طرقت الباب، وأنت لم تسمعني، وهذا أمر سيئ، بالنسبة لرجل مخابرات يبدأ عمله.
لم يرق لي أيضًا أن يوحي بغفلتي، فملت إلى الأمام، قائلا بشئ من الصرامة: - هل لي أن أعرف، من أنت بالضبط؟!
انطلقت من حلقه ضحكة صافية، وهو يضع الملف أمامي، قائلا: - رائع .. بدأت تعتاد المهنة.
قلت في صرامة أكثر: - إنك لم تجب سؤالي.
فوجئت به يطلق ضحكة عالية مجلجلة، ثم يربت على كتفى بحرارة شديدة، هاتفًا بمنتهى المرح: - رائع .. رائع.
ثم استدار يغادر المكان، دون أن يجيب سؤالي، وهو يكمل، في بساطة مدهشة: - هذه واجباتك المنزلية لليوم الأول .. راجعها جيدًا.
وتوقف عند الباب، ليغمز بعينه، مستطردًا: - لا أريد منك أن تقف في ركن الفصل غدًا.
ومع ضحكة مرحة أخرى، أغلق الباب خلفه، وتركني دون أن يبلغني حتى باسمه ..
ولثوان، حاولت استيعاب ما يحدث بهذه السرعة ..
إنني هنا منذ أقل من الساعة، وهأنذا ألتقي بعدد من النماذج المختلفة ..
الهادئ ..
القوى الحازم ..
وجه القنفذ الرصين ..
وعريض المنكبين المرح ..
ترى بمن سألتقي في المرة القادمة؟!
بل وما الذي ستحمله لي الخطوة التالية؟!
وفي حذر، يحمل شيئًا من التوتر، التقطت الملف، الذي وضعه المرح أمامي، وفتحته، ورأسي يحمل ألف سؤال ..
على الأقل.
متى ينام هؤلاء القوم؟!
هذا هو السؤال، الذي ملأ ذهني، طوال الفترة التالية، لالتحاقي بجهاز المخابرات !!
فمع دقات السابعة صباحًا، في اليوم التالي مباشرة، ولعدة أيام تالية، كنت أتواجد داخل مبنى آخر، في أطراف المدينة، أطلقوا عليه اسم (مدرسة المخابرات) ..
وفي هذه المدرسة عليك أن تفتح عينيك، وأذنيك، وعقلك أيضًا عن آخره، حتى تستوعب كل ما يلقنونك إياه لعدة ساعات، تفصل بينها دقائق قليلة للراحة، وتناول الطعام، والتقاط الأنفاس ..
كنا نتعلم كل ما يتعلق بالنفس البشرية وقدراتها ..
كل شئ بلا استثناء ..
تعلمنا كيف نتعامل مع الأنماط المختلفة من البشر، وكيف نرصدها، ونصنفها، ونجد الوسيلة المناسبة للسيطرة على كل منها ..
والسيطرة هنا لا تعني الهيمنة، أو الاستعباد، وإنما يعني البراعة في سبر أغوار الشخصية التي أمامك، والتسلل إليها بنعومة وحزم، بحيث تصبح قريبة منك، تمنحك ثقتها، واحترامها، وتجد راحتها في ترك زمام قيادتها لك ..
وتعلمنا أن رجل المخابرات الناجح، والجاسوس البارع، هو من يجيد فن السيطرة هذا عن جدارة ..
وتعلمنا الكثير عن وسائل الاتصال ..
وعن تقنيات التجسس ..
وسياسات الدول ..
واستخدامات المواد الطبيعية، المتاحة لكل مخلوق، لإنتاج أسلحة قوية، غير متاحة للمقاتلين ..
تعلمنا أمورًا لا يمكن أن تخطر لك على بال ..
ولكن أهم ما تعلمناه، هو ألا نتوقف لحظة عن ملاحظة ورصد كل ما يحيط بنا، دون أن نغفل لحظة واحدة ..
ووسيلتهم في تدريبنا على هذا كانت بسيطة ومدهشة بحق ..
ففي كل يوم، كان علينا أن نتوقع سؤالا، قبل بدء المحاضرات والدروس، وفي كل مرة كان السؤال يختلف ..
ما اسم الجراج المواجه لمبنى المدرسة؟!
ما نوع التلفاز الموجود في حجرة الطعام؟!
هل كان العلم مرفوعًا أم منخفضًا هذا الصباح؟!
على أى زمن، كانت ساعة المبنى متوقفة اليوم؟!
أسئلة من هذا القبيل؛ لاختبار قوة ملاحظتك، ويقظة حواسك، في كل يوم، وكل ساعة، وأحيانًا في كل لحظة ..
ومع الوقت، تتكون لديك حاسة مدهشة، لملاحظة كل ما يحيط بك من أشياء، وأشخاص، وحتى من جدران وأرضيات ..
والمدهش أن هذه الحاسة تنزرع في أعماقك، ثم لا تفارقها بعدها قط .. وهذا ما يصنع منك رجل مخابرات ..
وأعترف أنني، في البداية، كنت أحمل لمحة من السخط، وشئ من الاستهتار، تجاه فكرة الالتحاق بمدرسة المخابرات هذه؛ باعتبار أنني ضابط قوات خاصة سابق، لدىّ من المهارات ما يفوق ما لدى أى شخص عادي ..
ثم اكتشفت أن كل هذا لا يكفي، في عالمي الجديد ..
إنه عالم بلا حدود ..
عالم يحتاج إلى كل معارف ومهارات الدنيا ..
عالم الغموض، والإثارة، والأسرار ..
وعلى الرغم من كل مهاراتي وخبراتي السابقة، شعرت بأنني مجرد تلميذ صغير، في مدرسة جديدة، أشبه بمحيط هائل، لم أشعر بوجوده من قبل قط ..
ولأول مرة في حياتي، اكتشفت أن كل ما شاهدته من أفلام، وكل ما قرأته من كتب وروايات، عن عالم الجاسوسية والمخابرات، لم يكن حتى يقترب من الحقيقة في هذا المضمار ..
ولست أبالغ، لو قلت إن فترة مدرسة المخابرات، كانت من أهم محطات حياتي على الإطلاق ..
كنا ندرس، ونعمل، ونختبر، ونجرب، طوال الوقت تقريبًا ..
كنا لا ننام ..
ولا نمل أبدًا ..
وفي نهاية مرحلة التدريب، أدركت أنني لم أعد كما كنت عليه من قبل ..
لقد أصبحت رجلا جديدًا ..
رجل مخابرات ..
بحق ..
وكان هذا يعني أنني قد صرت مؤهلا لاقتحام عالمي الجديد، بثقة لم أشعر بمثلها في حياتي قط ..
عالمي، الذي أدركت، ولأول مرة أيضًا، أنه عالم بلا قيود أو حدود ..
على الإطلاق. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:00 pm | |
| 3-معلومات معلومات
منذ انتهت دورتي التدريبية، في مدرسة المخابرات، وعودتي إلى مكتبي الصغير في الإدارة، وقر في أعماقي أمر، يخالف كل ما كنت أتصوره من قبل ..
فعالم المخابرات ليس سهلا أبدًا ..
ربما يبدو مثيرًا من الخارج، ومغريًا بالبحث والدراسة، ولكنه - كأى عالم آخر - يمنحك في البداية شعورًا زائفًا بالمعرفة، عندما تكشف مفاتيحه الأولية، وتعرف قواعده الأساسية ..
في تلك المرحلة الأولية تبدأ في التباهي بنفسك، والزهو بأعماقك، والادعاء في داخلك بأنك صرت خبيرًا في مضمارك ..
ثم تتلقى معلومات أكثر ..
ومعارف أكثر ..
وأكثر ..
وأكثر ..
وعندئذ تدرك الحقيقة ..
تدرك أن كل ما تعرفه ليس سوى قطرة في بحر ..
بحر المعلومات ..
تمامًا كالشطرنج ..
من السهل أن تعرف قواعده وأساسياته ..
ومن العسير جدًا أن تبز وتتفوق فيه ..
هذا يحتاج إلى سنوات وسنوات، من الخبرة، والمران ..
والمواجهة ..
وكلما ربحت مباراة، تدرك أكثر أنك كنت مجرد مشاهد من قبل ..
مشاهد يحفظ القواعد فحسب ..
ولأنني قد أدركت هذا مبكرًا - لحسن الحظ - فقد شعرت بنهم شديد إلى المعرفة والمعلومات، ورحت أتساءل: كيف يمكنني الحصول على المزيد منها، و ....
"هل يمكنني الدخول؟!"
انطلق السؤال في مرح واضح، في نفس اللحظة التي عبر فيها عريض المنكبين باب حجرة مكتبي، وألقى جسده على المقعد المواجه لمكتبي، مستطردًا بابتسامة كبيرة: - أم أنني قد دخلت بالفعل.
كان أسلوبه هذا يستفزني لسبب ما .. ربما لتعارضه تمامًا مع طبيعة شخصيتي الرصينة، لذا فقد أجبت في هدوء متزن: - تفضل، على الرحب والسعة.
مال نحوي، وغمز بعينه، متسائلا: - كيف حال تلميذنا الصغير؟! سمعت أنك قد اجتزت دورتك الدراسية بتفوق، وناظر المدرسة يمتدح نشاطك وذكائك بحق.
كان من الواضح أن أسلوبه قد ضايقني إلى حد ما، وأنا أقول في اقتضاب: - عظيم.
تراجع مطلقًا ضحكة مرحة، قبل أن يلوح بسبابته، قائلا: - لو أردت نصيحتي يا صديقي، فاطرح عن ذهنك هذا التزمت العسكري، واندمج في عالمنا هذا.
قلت في حزم: - كنت أظن أن الرصانة هى أساس عمل المخابرات.
هز رأسه نفيًا في بطء، قبل أن يتطلع إلى عينىّ مباشرة، ويقول في ابتسامته الكبيرة: - عملنا لا صلة له بالرصانة أو المرح يا صديقي .. عش كما يحلو لك، ما دام ما تفعله ينعش آلتك الرئيسية.
أطل التساؤل من عينىّ، فمال نحوى، وأكمل، مشيرًا إلى رأسه: - هذه.
شملنا الصمت بضع لحظات، بعد أن نطق عبارته الأخيرة هذه، وكلانا يتطلع إلى عينى الآخر مباشرة، قبل أن يعتدل هو في مقعده، ويسألني في جدية، لا تتفق مع طبيعته المرحة: - ما الذي يقلقك بالضبط؟!
لم أعتد أبدًا الإفصاح عن مشاعري للآخرين، وعلى الرغم من هذا، فقد وجدت نفسي أجيبه في بساطة: - ما زال ينقصني الكثير.
هز كتفيه، قائلا: - هذا أمر طبيعى .. لقد بدأت عملك بصعوبة.
كررت في توتر: - ما زال ينقصني الكثير، حتى أبدأ عملي، على نحو جيد.
سألني في اهتمام: - ما الذي ينقصك بالضبط؟!
أجبته في سرعة، وكأنني كنت أنتظر سؤاله في شغف: - المعلومات.
كنت أتصور أن جوابي سيدهشه، أو سيثير تعجبه أو استنكاره، إلا أنني فوجئت به يستعيد ابتسامته العريضة، وهو يقول: - أمر طبيعى.
ثم نهض من مقعده فجأة، مضيفًا: - اترك لي هذا الأمر.
سألته في شئ من اللهفة: - وماذا يمكنك أن تفعل، في هذا الشأن؟!
أطلق ضحكة مرحة، وهو يندفع نحو الباب، مجيبًا: - سترى.
تابعته ببصري، وهو يغادر الحجرة، قبل أن أتراجع في مقعدي، متسائلا في أعماقي، في قلق عارم: أكان من المنطقى أن أتحدث إليه، في هذا الشأن؟!
ثم كررت في أعماقي السؤال ذاته ..
ما الذي يمكنه أن يفعله؟!
لقد تعلمنا، في مدرسة المخابرات، أن إحدى القواعد الأساسية، في عالم المخابرات، هى "المعرفة بقدر الحاجة"، وهذه قاعدة تبدأ مع كل عملية ..
فالكل، في أثناء العملية، هم قطع لوحة الشطرنج، يحركها لاعب ماهر، بخطة مسبقة، تم تحديد هدفها مسبقًا، ولكن خطواتها تتحدد وتتطور، مع تحركات قطع الخصم ..
وفي اللعبة، لا يعرف كل المعلومات سوى اللاعب وحده، أما قطع الشطرنج، فكل منها لا يعرف سوى ما يخص دوره فحسب ..
ومن هنا، أتت العبارة .. "المعرفة بقدر الحاجة" ..
وأنا أدرك الحكمة من هذا جيدًا ..
فالعمل خلال الخطة، يدور في إطار السرية التامة؛ حتى لا يعرف الخصم تحركاتك القادمة مسبقًا، فيستعد لمواجهتها، أو ضربها عند اللزوم ..
والسرية التامة تستلزم ألا يتجاوز السر عقل صاحبه فحسب ..
هو وحده يمتلك كل المعرفة ..
ويشارك فيها معاونيه ومستشاريه فحسب ..
أما الأفراد، أو قطع الشطرنج، فمعارفهم لابد أن تكون محدودة بأدوراهم؛ حتى لا ينكشف السر أو ينتشر ..
بل إن بعضهم لا يعلم حتى لماذا يقوم بهذا الدور ..
أو ما الهدف منه ..
ولكنه ينفذه فحسب ..
وبمنتهى الدقة ..
ومنتهى الأمانة ..
وهذا لا يتنافي مع ضرورة أن يعرف كل فرد كل المعلومات، التي تساعده على القيام بدوره، على أكمل وجه ممكن ..
ولكن دون معرفة زائدة ..
باختصار، على كل فرد معرفة ما يفيده، دون أدنى زيادة أو نقصان ..
وكما ترون، فهذه عملية بالغة الدقة، ولا يقدر على إدارتها بنجاح، سوى لاعب ماهر، خبير، محنك، برتبة ضابط ..
ضابط مخابرات ..
وتصحيحًا لمعلومة خاطئة سائدة، لا يعمل ضابط المخابرات وحده أبدًا، فعندما نقول: إنه يتولى عملية ما، فهذا يعني أنه يرأس فريقًا من المفكرين، والمخططين، والمستشارين، والخبراء؛ لأنه لا يمكن لعقل واحد أن يدير لعبة متكاملة ..
الخصم يدير عملياته بفريق من الخبراء، ولابد من أن تتصدى له بفريق آخر من الخبراء .. هذا لأنه من المستحيل أن يهبط لاعب واحد، مهما بلغت براعته، إلى ملعب كرة قدم، ليواجه الفريق الخصم بأكمله، ثم يكون المطلوب منه أن يحرز أهدافًا أيضًا !!
من المستحيل تمامًا !!
هذا ألف باء عمل المخابرات، كما تعلمته على أيدي خبراء ..
انتزعنى فجأة من أفكاري هذه، صوت طرقات رصينة على الباب، فرفعت رأسي، قائلا في آلية: - ادخل.
لم أكد أنطقها، حتى شعرب بشئ من الحنق؛ لأنني لم أتبع القواعد، التي تحتم السؤال عن الطارق أولا، وصرخت في أعماقي أنه من الضروري أن أنتبه إلى هذا، في المرة القادمة ..
ولكنني لم أستغرق طويلا، في حالة اللوم الذاتي هذه؛ إذ انفتح باب مكتبي الصغير في هدوء، وظهر على عتبته وجه القنفذ، برصانته المعتادة، وصوته الرفيع، وهو يقول: - أخبروني أنك تريدني يا سيدي.
انفرجت شفتاى؛ لإنكار هذا واستنكاره، وسؤاله عمن أبلغه به، لولا أن استدرك في سرعة: - بشأن المعلومات.
وعندئذ فهمت على الفور ..
إنه عريض المنكبين ..
وهذا ما فعله ..
لقد أرسل إلىّ وجه القنفذ، لسبب ما ..
سبب جعلني أسأله في اهتمام: - وهل يمكنك أن تفيدني في هذا الشأن؟!
أجابني في هدوء رصين، وهو يدلف إلى المكتب: - بالتأكيد.
يومها عرفت الكثير عن العالم المحيط بي في الإدارة ..
عرفت أن وجه القنفذ هذا شخصية مدهشة بحق، وتدعو إلى الاحترام، إلى أقصى حد ممكن ..
إنه أرشيف حى، يحمل في عقله، وأعماقه، وكل ذرة في كيانه، كمًا هائلا من المعلومات، عن عالم المخابرات، وتاريخه، وعملياته، وأسراره المدهشة ..
ثم إنه يمتلك أسلوبًا سلسًا جذابًا، وهو يروى عملية مخابرات قديمة، أو يشرح نقطة غامضة، أو يفسر خطوة حسمت قضية ما ..
ولساعات طويلة، لم أشعر بمرورها، راح عقلي يحتشد بعشرات القصص، والروايات، والمعلومات ..
معلومات ..
معلومات ..
معلومات ..
والمدهش أنني لم أشعر قط بالتعب ..
أو الإجهاد ..
أو الملل ..
أو حتى الشبع ..
بل على العكس تمامًا، لقد تضاعف فهمي للمعرفة والمعلومات أكثر ..
وأكثر ..
وأكثر ..
والرائع أن وجه القنفذ لم يبد أى ضجر، أو يعلن تعبه أو إجهاده ..
كان يبدو هادئًا رصينًا كعادته، ومستعدًا للمضى في حديثه، حتى آخر مدى، لولا أن سمعنا صوت عريض المنكبين، وهو يقول ضاحكًا: - رويدكما .. المخابرات لن تنتهى الليلة.
انتبهت، مع كلماته فقط، إلى أننا قد تجاوزنا ساعات العمل الأساسية بأربع ساعات كاملة، دون أن ينبهني وجه القنفذ إلى هذا، أو يبدى تبرمه أو غضبه؛ بسبب تلك الساعات الإضافية، التي أجبرته على قضائها بشغفي الشديد للمعلومات، واحتملها هو برصانته وشهامته، وطبيعته المهذبة، التي أكشفها لأول مرة ..
أما عريض المنكبين، فقد تابع بمرحه المعتاد، وهو يشير بسبابته: - المعلومات هنا لا حصر لها، وستظل تنهل منها، حتى آخر لحظة في حياتك.
وغمز بعينه، وهو يضيف ضاحكًا: - ثم إنني قررت أن أدعوك لتناول طعام الغداء، لنتعارف أكثر على الأقل.
نهض وجه القنفذ إثر كلمات عريض المنكبين، وقال في هدوء رصيني مهذب: - غدًا نكمل.
ثم استدرك في سرعة: - لو أن هذا يناسبك.
نهضت بدوري أصافحه في حرارة واحترام، قائلا: - يناسبني بالتأكيد.
اتسعت ابتسامة عريض المنكبين، وهو يعقد ساعديه أمام صدره القوى، وظل صامتًا، حتى انصرف وجه القنفذ تمامًا، فقال، وهو يغمز بعينه عابثًا في مرح: - من الواضح أن الغلاف العسكري سيذوب بسرعة.
أشرت بيدي، نحو الباب الذي انصرف منه وجه القنفذ، وأنا أقول: - إنه رجل رائع.
فهم عريض المنكبين ما أعنيه على الفور، فأومأ برأسه موافقًا، وهو يقول بابتسامة كبيرة: - بالتأكيد.
سألته في اهتمام: - أهو ضابط مخابرات قديم؟!
هز رأسه نفيًا، وهو يقول في بساطة: - إنه ليس ضابط مخابرات.
اتسعت عيناى في دهشة، فأضاف: - إنه موظف قديم هنا.
هتفت بكل دهشة الدنيا: - موظف؟!
قال في بساطة، وهو يفسح لي الطريق؛ لنغادر المكتب معًا: - نعم .. موظف مسئول عن أرشيف العمليات.
ثم ضحك، مضيفًا: - هل تعتقد أن أجهزء المخابرات تعمل بالضباط وحدهم؟!
قلت في انبهار، ونحن نسير في ممرات المبنى: - ولكنه يملك قدرًا مدهشًا من المعلومات.
وافقني بإيماءة من رأسه قائلا: - نعم .. إننا نتعمد على ذاكرته الأرشيفية المدهشة هذه كثيرًا.
شغلني التفكير في هذا الأمر، طوال طريقنا إلى ذلك المطعم الأنيق الهادئ، الذي يحتل طابقًا كاملا، من المبنى الإدارى الثالث، وما إن جمعتنا مائدة الطعام، حتى سألت عريض المنكبين في اهتمام: - ألدينا هنا عدد كبير من الموظفين؟!
أومأ برأسه إيجابًا، وقال: - بالطبع .. لدينا موظفون للحسابات، وشئون الأفراد، وكل الأعمال الإدارية الأخرى.
ثم ابتسم، مستطردًا: - حتى رجال المخابرات، يحتاجون إلى من يتولى شئون رواتبهم وأعمالهم يا زميلي.
كدت أهتف بأن هذا أمر طبيعي، وأعلن دهشتي من أنني لم أنتبه إليه، إلا أنني اكتفيت بالتراجع في مقعدي، وأنا أقول: - بالتأكيد.
تناول عريض المنكبين طعامه في هدوء، لا يتناسب مع مرحه ونشاطه المعتادين، وقال، وهو يمضغ قطعة من اللحم المشوى: - هل فكرت، في أية مخابرات تنوي ان تبدأ عملك معنا؟
تساءلت بدهشة عارمة: - ما الذي يعنيه هذا؟! أهناك مخابرات أخرى هنا؟!
ابتلع قطعة اللحم المشوي، ثم ابتسم ابتسامة كبيرة، وهو يمسح فمه بمنشفة صغيرة، ويميل نحوي، قائلا: - بالطبع أيها التلميذ الجديد .. هناك نوعان من المخابرات دومًا.
ومع انبهاري الشديد، رحت أستمع إليه بمنتهى الشغف ..
ورحت أنهل من فيض جديد من المعلومات ..
بلا حدود.
| |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:00 pm | |
| 4-سالب وموجب :
تؤكد معظم الأقوال المأثورة، في كل أنحاء العالم تقريبًا، أن الانبطاعات الأولى تدوم دومًا ..
ولكنني، وبعد أسبوع واحد، من العمل في جهاز المخابرات، وبعد أن أنهيت مرحلة التدريبات الأولية، تأكدت من أن هذا القول خاطئ ..
خاطئ تمامًا ..
فمع لقائي الأول به، لم يرق لي أبدًا، عريض المنكبين؛ بسبب مرحه الزائد، وابتسامته المشرقة دائمًا، نظرًا لما ألفته في كليتي العسكرية، من الانضباط، والصرامة، وضبط النفس، والجدية بلا حدود ..
أما الآن، وبعد أسبوع واحد، من تناول طعام الغداء معًا، في المطعم الملحق بأحد مباني الجهاز، أصبحت أحترمه كثيرًا ..
كثيرًا جدًا ..
بل لست أبالغ أبدًا، عندما أؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أنني قد صرت مبهورًا به ..
وحتى النخاع ..
فلست أنسى أبدًا تلك الجدية الهادئة، التي راح يتحدث بها إلىّ، مع بساطته النادرة، وهو يشرح لي الفارق الجوهري، بين المخابرات الإيجابية، والمخابرات السلبية ..
بل، وما زلت أذكر نص كلماته، وهو يقول: - أجهزة المخابرات، في أية دولة في العالم، تنقسم إلى قسمين رئيسيين .. المخابرات الإيجابية، والمخابرات السلبية، أو الوقائية .. فالأولى مهمتها هى السعى، لجمع كل المعلومات الممكنة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، عن دول الجوار أو المواجهة، أو الدول التي تربطنا بها علاقة ما، بحيث يمكنها أن تضع أمام أصحاب القرار، في دولتها، كل ما يضمن اتخاذهم القرارت الصحيحة، في الأوقات الصحيحة، سواء في زمن السلم، أو زمن الحرب، وفي بعض الأحيان، يتطور عمل المخابرات الإيجابية، إلى إثارة القلاقل، أو الفتن، أو حتى أعمال التدريب والتخريب، لو اقتضى الأمر، وبالذات في أوقات المواجهة أو زمن الحروب، والمخابرات تسعى للنجاح في عملها، بكل الوسائل الممكنة، ومنها تجنيد عملاء، وسط صفوف العدو أو الخصم، أو زرع الجواسيس في أعماقه، أو إخفاء بعض أجهزة الرصد والمراقبة أو التنصت، وكل ما يمكن أن يخطر على بالك، مما يحقق السيادة المعلوماتية لدولتها .. أما المخابرات السلبية، أو المخابرات الوقائية، فهى الجانب المعاكس تمامًا لهذا، أو أنها المسئولة عن حماية الأمن القومي، ومنع مخابرات الخصم من تحقيق كل الأهداف التي تسعى إليها، في الجانب الإيجابي منها، لذا فهى تحمي الأسرار، وتكشف الجواسيس والعملاء، وتمنع الفتن والانقلابات وغيرها.
يومها أكمل حديثه الجاد، ثم مال نوحي، واستعاد ابتسامته، وهو يسألني بلهجته المرحة، ذات اللمحة العابثة: - والآن، أيهما ستختار؛ لبدء عملك هنا.
تراجعت في مقعدي، وأنا أسأله في اهتمام: - وهل الاختيار متاح؟!
أجابني في سرعة: - بالتأكيد.
ثم استعاد جديته، متابعًا: - القاعدة الرئيسية هنا، هى ضرورة أن تعمل في مجال، يمكنك التفاعل معه .. في البداية على الأقل؛ فعملنا يحتاج إلى منتهى اليقظة، ومنتهى التفاعل .. باختصار، يحتاج إلى منتهى الحب، ولن يمكنك أن تمنح عملك كل هذا، إلا لو أحببته بحق.
كانت كلماته أقرب إلى الفلسفة والشاعرية، منها إلى كلمات رجل مخابرات محنك، إلا أنها راقت لي كثيرًا، مما جعلني أسأله في اهتمام: - وماذا تقترح؟!
ابتسم، قائلا في دهشة: - أنا؟!
ثم أطلق ضحكة عالية مرحة، قبل ان يستطرد: - المفترض أن هذا قرارك أنت.
قلت في سرعة: - وأنا أسألك النصح والمشورة.
بدت على وجهه دهشة كبيرة، استغرقت لحظة واحدة، قبل أن يتراجع في مقعده، ويقول في بطء: - تسألني أنا؟!
أجبت بنفس السرعة: - بالتأكيد.
لاذ بالصمت بضع لحظات، وهو يتطلع إلى وجهي مباشرة، ويحك ذقنه بسبابته، على نحو يوحي بأنه يحاول كتمان انفعال ما في أعماقه، قبل ان يقول: - فليكن.
نطقها بلهجة غلبها انفعالها، قبل أن يتنحنح، ويستعيد توازنه، مستطردًا في حزم: - في هذه الحالة، أنصحك بأن تبدأ عملك في المخابرات الوقائية.
سألته في اهتمام: - ولماذا؟!
أشار بيده، قائلا: - العمل في المخابرات الوقائية أقل خطورة؛ إذ إنك ستعمل داخل حدود دولتك، في أغلب الأحيان، وستملك ناصية نفسك، وتجد حولك كل ما تحتاج إليه، وكل من تحتاح إليه؛ لإتقان العمل على أفضل وجه، ثم إنك، في الوقت ذاته، ستكتسب خبرة لا بأس لها، في التعامل مع الجواسيس والعملاء، وستتعلم كل ما ينبغي أن تتعلمه، بشأن الإجراءات القانونية الصحيحة، التي تجعل قضيتك محكمة تمامًا.
ابتسمت وأنا أقول، في شئ من الزهو لم أتعمده: - أظنني قد اكتسبت خبرة مناسبة في هذا الشأن، من خلال ملفات العمليات السابقة.
تراجع في مقعده، وعاد يتطلع إلىّ مباشرة، قبل أن يسألني فجأة: - هل تجيد لعبة الشطرنج؟!
أدهشني سؤاله، فأجبته في حذر: - إلى حد ما.
سألني في جدية: - هل تعتقد أنه يوجد لاعب شطرنج واحد، في العالم كله، يجهل قواعد اللعبة؟!
أجبته في سرعة ودهشة: - هذا مستحيل !
عاد يميل نحوي، قائلا: - إذن فكل لاعب شطرنج يعرف قواعد اللعبة.
هتفت: - بكل تأكيد.
تطلع إلى عينىّ مباشرة هذه المرة، وهو يقول: - وعلى الرغم من هذا، فلن تجد دورى شطرنج متشابهين أو متطابقين تمامًا، مهما طالعت.
أدركت ما يعنيه على الفور، فتراجعت في مقعدي، وأنا أغمغم: - هذا صحيح.
ابتسم، مطمئنًا لاستيعابي الفكرة، وهو يقول: - هكذا عمليات المخابرات .. الكل يعرف القواعد، والكل يتبعها بمنتهى الدقة، ولكن لا توجد عمليات متشابهة قط .. كل عملية لها ظروفها، وتعقيداتها، وأساليبها، والوسائل اللازمة للتعامل معها، والوسيلة الوحيدة لاكتساب الخبرة، في هذا المضمار، هى أن تخوض اللعبة بنفسك، وأن تواجه كل مخاطرها، ومتاعبها وتعقيداتها، وأن تتعامل بنفسك مع جاسوس أو عميل، وتتابعه، وتراقبه، وترصده، وتلاعبه.
وتوقف ليلتقط نفسًا عميقًا، قبل أن تتسع ابتسامته، وهو يضيف: - بهذا فقط، تصبح رجل مخابرات.
كنت مبهورًا تمامًا بما يقول، لذا فقد رحت أتطلع إليه صامتًا بضع لحظات، قبل أن أسأله في خفوت: - أهكذا بدأت أنت؟!
أومأ برأسه إيجابًا، وقال: - نعم.
سألته في فضول: - وأين أنت الآن؟!
صمت طويلا هذه المرة، قبل أن يجيب في بطء: - لماذا تتعجل الأمور؟!
ثم اعتدل فجأة، مضيفًا: - قريبًا، ستعرف كل شئ عما يحدث هنا.
هكذا أنهى حديثه، في ذلك اليوم، ثم أتبعه بابتسامة عريضة، وهو يقول في مرح: - ألن نتناول طعامنا؟!
ووجدت نفسي أضحك بدوري، هاتفًا في حماسة: - بالتأكيد.
ومنذ لك اليوم، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعريض المنكبين، وكذلك بوجه القنفذ، الذي اعتاد المرور بمكتبي يوميًا، ليروي لي بعض العمليات القديمة ..
والواقع أنني أدمن هذه اللقاءات ..
أدمن الاستماع إلى العمليات القديمة، من بين شفتى وجه القنفذ ..
وأدمنت الاستزادة من المعارف والقواعد، في جلساتي مع عريض المنكبين ..
وانهالت الكشوف على ذهني، على نحو أدهشني كثيرًا ..
فلقد أدركت أن الصارم كان يومًا الدينامو المحرك للجهاز كله، أما ذلك الذي التقيته في البداية، فكان أبرع رجال العمليات الخاصة، والرجل الذي تسند إليه كل عملية، تحتاج إلى قلب ميت، وشجاعة بلا حدود، وانتحارية لا تعرف التراجع أو الاستسلام ..
ولكن المفاجأة الكبرى كانت تخص ذلك المرح عريض المنكبين ..
فالرجل، على الرغم من مرحه الزائد، هو عبقري الشطرنج المخابراتي، وأبرع من يدير عملية ما، مهما بلغت صعوباتها وتعقيداتها ..
إنه أشبه بـ(أينشتين)، بالنسبة لمضماره هذا، ولقد برزت موهبته الفذة هذه، منذ كان يعمل في المخابرات الوقائية، وتطورت على نحو مدهش، عندما بدأ عمله كضابط حالة، مما جعله يحتل الآن مكانة خاصة جدًا في الجهاز ..
ومن واقع الملفات، بدا من الواضح أنه يمتلك عقلية شديدة الدقة والتنظيم، ويمكنها التعامل مع عدة محاور في آن واحد، وبمهارة مدهشة، وعبقرية يندر وجودها، في هذا المجال ..
ومع معرفتي هذه، ازداد احترامي له ..
وانبهاري به ..
وأصبحت مبهورًا ببساطته ..
ومرحه ..
ومداعباته المستمرة ..
وتنفيذًا لنصيحته، قررت أن أبدأ العمل، من خلال الفرع الوقائي في الجهاز، وسجلت مطلبي هذا رسميًا ..
وبدأت مرحلة التدريب الجديدة ..
وهذه واحدة من مزايا العمل، في جهاز مخابرات ..
أنك لا تتوقف عن التعلم واكتساب الخبرات أبدًا ..
وهذا أمر ممتع ..
وإلى أقصى حد ..
ولقد أقبلت على مرحلة التدريب الجديدة هذه بمنتهى الشغف، ورحت أنهل منها في شراهة غير مسبوقة، حتى إنني حصلت على تقدير ممتاز في نهايتها ..
وعلى مفاجأة مدهشة ..
ورائعة ..
فبعد أسبوع واحد، من انتهاء الدورة، تم تكليفي بعملية جاسوسية داخلية ..
أول عملية في حياتي المهنية ..
وفي عالمي المدهش ..
عالم المخابرات. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:01 pm | |
| 5-العملية الأولى
فجأة، وصلني استدعاء عاجل من الصارم ..
كنت أؤدي أعمالي اليومية المعتادة، وأراجع بعض الملفات؛ لاكتساب بعض الخبرات النظرية، من أعمال القدامى، عندما دلف وجه القنفذ إلى مكتبي فجأة، وأشار بإبهامه خلف ظهره، قائلا في اهتمام بالغ، لم يتعارض قط، مع رصانته المعتادة: - سيادته يطلب رؤيتك فورًا.
اعتدلت، مرددًا في حذر: - سيادته؟!
نطق اسم الصارم، على نحو يوحي بالاحترام والتقدير الشديدين، قبل أن يضيف، وهو يومئ برأسه، على نحو لم أفهمه لحظتها: - إنه لا يحب الانتظار طويلا.
لملمت أوراقي بسرعة، وأغلقت مكتبي خلفي بإحكام، كما تقتضي التعليمات الأمنية، ثم اتجهت مباشرة إلى مكتب الصارم، في المبنى المجاور، وكل خلية في مخي تدرس الموقف، وتحاول إيجاد أجوبة شافية لهذا الاستدعاء العاجل المفاجئ ..
ولكنني أعترف هنا، على هذه الأوراق، بأنني لم أتوصل إلى الجواب الحقيقي، أو حتى أتخيله ..
أبدًا ..
بل إن كل توقعاتي قد خابت تمامًا مع لحظات اللقاء الأولى ..
كلها بلا استثناء ..
فأول ما توقعته هو أن يستقبلني الصارم بأسلوبه المعتاد، الذي يتناسب مع اللقب الذي أطلقه عليه، وأن يلقي على مسامعي في غلظة وآلية، و ....
ولكن الصارم لم يفعل هذا قط ..
لقد استقبلني في مكتبه بهدوء شديد، ودعاني إلى الجلوس، على المقعد المجاور لمكتبه، ثم التقط ملفًا من أمامه، ونقله أمامي، وهو يقول، في لهجة بدت لي ودودة، إلى حد كبير: - طالع الصفحة الأولى من هذا الملف يا رجل، وأخبرني برأيك فيما تحويه.
كنت أعلم، من واقع خبرتي النظرية، أن الصفحة الأولى تحوي في المعتاد ملخصًا سريعًا وافيًا لمحتويات الملف كله؛ لذا فقد طالعتها في دقة واهتمام، قبل أن أقول، في حذر لم يمكنني تجاوزه: - إننا نتحدث عن جاسوس، يعمل لحساب دولة معادية، في موقع حساس من حكومتنا، ولقد تم كشف أمره بسبب بعض الأخطاء البسيطة التي وقع فيها، دون أن يدري، والتي كشفتها عيوننا، فتم وضعه تحت المراقبة، استعدادًا لإلقاء القبض عليه.
تراجع الصارم في مقعده وسألني: - هل تعرف هذا الاسم جيدًا؟!
أومأت برأسي إيجابًا، فسألني: - وهل كنت تتصور أن يكون جاسوسًا وعميلا لأعداء وطننا؟!
ترددت لحظة، قبل أن أقول في حذر: - ما ورد في هذا الملف، يشير إلى أن ....
قاطعني، وقد استعاد صرامته المعهودة: - هل كنت تتصور هذا؟!
التقطت نفسًا عميقًا، قبل أن أجيب في حزم: - لولا ما ورد في هذا الملف، لما تخيلت هذا قط.
ضرب سطح مكتبه براحته، وهو يقول في حماسة مفاجئة: - بالضبط.
ثم نهض من خلف مكتبه بحركة حادة مباغتة، وبدأ يتحرك في المكان، متابعًا في حزم: - الرجل يحتل منصبًا مرموقًا وحساسًٍا كما ترى، ومن الواضح أنه قد تمت تغطيته بمهارة شديدة، ومن المحتمل أنه يعمل لحسابهم منذ سنوات، حتى إنه لم يعد يتخذ أساليب الحيطة والحذر كالمعتاد، والتي تضمن سلامته وأمنه، وهذا أول خطأ يقع فيه الجاسوس الذي يظل في موقعه طويلا، إذ تتزايد ثقته بنفسه، ويبدأ في إهمال أمنه الشخصي.
واستدار إلىّ، وهو يرفع سبابته أمام وجهه، مستطردًا في شئ من الحماسة: - وهنا ينكشف جانب من رقعته.
أدركت على الفور أنه يعني بقوله هذا رقعة الشطرنج الوهمية، التي تدور فوقها حرب الجواسيس دومًا، فغمغمت: - هذا من حسن حظنا.
انعقد حاجبا الصارم، وهو يلوح بسابته، قائلا بكل صرامته: - لا شأن للحظ هنا.
ثم جذب مقعدًا، وجلس أمامي مباشرة، وهو يضيف بلهجة حازمة صارمة، وأسلوب أشبه بالمعلم، الذي يلقن تلميذه قواعد لعبة جديدة: - كلنا نتفق على أن عملنا أشبه بصراع فوق رقعة شطرنج .. القطع عليها هى الجنود، الحقيقية والمعنوية، والقواعد تحكمنا، وتحكم خصومنا أيضًا، وما دام الأمر كذلك، فلا مجال للحظ على الإطلاق، تمامًا كلعبة الشطرنج الأصلية .. كل قطعة تربحها، إما بمهارتك في اللعبة، أو بخطأ يرتكبه خصمك على الرقعة .. وفي عمليتنا هذه، أخطأ الخصم، عندما لم يواصل التأكيد على أهمية الالتزام بقواعد الحيطة والحذر، بالنسبة لعميله، وهذا ما منحنا فرصة كشف أمره .. هل فهمت؟!
غمغمت: - بالتأكيد.
قال، وهو ينهض فجأة: - عظيم.
ثم عاد خلف مكتبه، وهو يضيف بصرامته المعتادة: - خذ هذا الملف إلى مكتبك إذن، وادرسه بمنتهى الدقة والعناية، فهذه قضيتك الأولى.
وثب قلبي داخل صدري في لهفة، واتسعت عيناى على الرغم مني، وأنا أهتف: - قضيتي؟! أنا؟!
انعقد حاجباه في شدة، وهو يقول بمنتهى الصرامة: - بالطبع .. هل تصورت أنك ستجلس هنا بدون عمل إلى الأبد؟!
كانت كل ذرة في كياني تتفجر بالحماسة والسعادة، حتى إنني لم أستطع منع انفعالاتي من القفز إلى لساني، وأنا أحمل الملف، وأنهض، قائلا في لهفة: - كلا يا سيدي .. كلا بالطبع.
كنت أندفع نحو باب المكتب، وكلي لهفة على بدء العمل فورًا، عندما استوقفني الصارم، قائلا: - تذكر جيدًا .. هنا لا يعمل أحد منفردًا.
قلت بمنتهى الحماسة: - بالتأكيد يا سيدي .. لقد درست هذا من قبل .. درسته وحفظته جيدًا.
مال إلى الأمام، وهو يقول في صرامة: - اعمل على حسن نقله إلى واقع الحياة العملية إذن.
لم أنس عبارته الأخيرة هذه أبدًا، وأنا أعود إلى مكتبي، وأضع الملف أمامي، محاولا إقناع قلبي بالتوقف عن الخفقان في قوة، قبل أن تتمزق أضلاعي من عنف ضرباته، ومنع أنفاسي المتلاحقة، من التواصل على هذا النحو، حتى لا أفقد وعيى، وأنا أتطلع إلى الملف، الذي بدا لي أشبه بشاهدة ميلاد جديدة، في عالمي هذا .. عالم المخابرات ..
سبع دقائق كاملة، قضيتها محدقًا في الملف، قبل أن ألتقط سماعة الهاتف الداخلي، وأتحدث إلى وجه القنفذ، قائلا: - أريدك فورًا.
لم تمض دقيقة واحدة، حتى وجدته يقف أمامي، بوجهه النحيل الرصين، وهو يقول في هدوء: - أوامرك.
طلبت منه أن يغلق باب المكتب خلفه، ودعوته إلى الجلوس، وأنا أربت على الملف، قائلا: - إنها قضيتي الأولى.
ابتسم ابتسامة رصينة كعادته، وهو يقول: - مبارك.
قلت في سرعة: - أريد خبرتك.
قال في حماسة رصينة: - كلي رهن إشارتك.
لم أطلعه على محتويات الملف في البداية، وإنما رحت أسأله عن كيفية العمل، وأسلوب تكوين الفريق، ووسائل التعامل مع الموقف، وهو يجيب كل أسئلتي في اهتمام هادئ، دون حماسة أو انفعال ..
وبعد ساعة كاملة، كنت قد راجعت معه كل ما درسته في صفوف مدرسة المخابرات من قبل، بشأن إدارة عمليات كهذه، وعاونني مخلصًا في اختيار فريق العمل، المكون من ثلاثة من الشباب وفتاة واحدة، بالإضافة إليه هو، كمرجع للمعلومات، ومنسق للعمل ..
وبعد أن تم تدوين كل هذا، في محرر رسمى، أطلعته على الملف، باعتباره فردًا من فريق العمل ..
وفي أثناء مطالعته للملف، قمت بعمل كل الاتصالات الداخلية اللازمة، لاجتماع فريق العمل، بعد ساعة واحدة، ثم سألته في اهتمام: - ما رأيك؟!
هز رأسه، مجيبًا: - أمر مؤسف.
ثم استدرك في رصانة: - ولكنه ليس مفاجئًا.
تراجعت في مقعدي بكل دهشتي، قائلا: - ليس مفاجئًا؟!
أومأ برأسه إيجابًا، وهو يقول: - لو أنك طالعت ما طالعته عن عالم الجاسوسية، لأدركت أن كل شئ ممكن ومحتمل، مهما بلغت غرابته، وتاريخ حرب الجواسيس يحوي الكثير والكثير، من الأمور الغريبة، والمدهشة، والمفزعة أيضًا، حتى إنك ستصبح، بعد فترة من الخبرة، مؤهلا لتقبل أى شئ.
تنهدت، مغمغمًا: - الرجل يحتل منصبًا مرموقًا بالفعل، وكان هذا يكفيه.
هز كتفيه، قائلا: - لسنا نعلم بعد، لماذا عمل لحسابهم .. أو اضطر للعمل لحسابهم.
قلت مستنكرًا: - هل يمكن أن يخون وطنه، على الرغم من إرادته؟!
قال في هدوء رصين: - كل شئ ممكن.
لوحت بيدى مستنكرًا، وأنا أقول: - إلا هذا .. ولو كان الأمر بيدى، لاكتفيت بما يحويه هذا الملف، وألقيت القبض عليه فورًا.
هز رأسه، قائلا في حزم: - لا يمكنك أن تفعل هذا.
لوحت بالملف هذه المرة، وأنا أقول: - هل قرأت الملف جيدًا؟!
أومأ برأسه إيجابًا قبل أن يعتدل في مقعده، ويشبك أصابع كفيه أمام وجهه، قائلا: - نعم .. ووفقًا لما جاء به، فهذا الرجل ليس جاسوسًا لدولة معادية .. على الإطلاق.
وكانت هذه الكلمات مفاجئة بالنسبة لي حقًا ..
مفاجئة ومدهشة ..
كثيرًا. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:02 pm | |
| 6-التوازن
على الرغم من كل ما قرأته ودرسته، عن أعمال المخابرات وقواعد لعبة الجاسوسية، منذ بدأت عملي كرجل مخابرات، ومنذ قررت أن أتخصص في مكافحة الجاسوسية، ومن كل ما رواه لي وجه القنفذ، وما شرحه لي عريض المنكبين، لم يكن الانتقال إلى عالم الواقع سهلا أو بسيطًا أبدًا ...
فهناك في مكتبي الصغير، في إدارة المخابرات، لقنني وجه القنفذ، بخبراته الطويلة، درسًا جديدًا ومهمًا للغاية، في عالم الجاسوسية ...
فبالنسبة إليه، وبعد أن قرأ ملف قضيتي الأولي، وبمنتهى الاهتمام والعناية، لم يكن الرجل الذي نسعى خلفه جاسوسًا، يعمل لحساب دولة معادية ...
على الإطلاق ...
"ولكن كيف؟!"
هتفت بالسؤال، بمنتهى الدهشة والاستنكار، وأنا أراجع في ذهني كل ما قرأته في ملف ذلك الرجل، من أمور تصمه إلى الأبد بالخيانة، وتؤكد دون أدنى شك أنه جاسوس ...
ولكن وجه القنفذ ظل هادئًا رصينًا كعادته، ولم يتأثر كثيرًا أو قليلا بانفعالي واستنكاري، وهو يشير بسابته، قائلا: - الدليل .. أين الدليل؟!
بدا قوله أشبه بصفعة قوية، هوت على وجهي بمنتهى العنف، وجعلتني أرتج في أعماقي بقوة، وأنتبه لأول مرة، إلى أننا لا نمتلك أى دليل مادى، حتى هذه اللحظة، يمكن أن يدين الرجل ...
وفي توتر، قلت لوجه القنفذ: - لدينا هنا طن من القرائن.
هز رأسه، قائلا: - كلها لا تساوي شيئًا.
أحنقني هذا بشدة، وقلت غاضبًا: - وكيف هذا؟! لقد ارتكب الرجل عدة أخطاء كبيرة، لفتت إليه الانتباه، وتمت مراقبته بدقة، وتأكدنا تمامًا من أنه يرسل بعض المعلومات السرية، الخاصة بموقعه شديد الحساسية، إلى دولة معادية ... كيف تقول عن كل هذا إنه لا يساوي شيئًا؟!
ابتسم وجه القنفذ ابتسامة هادئة رصينة كعادته، وهو يقول: - لو أننا جهاز أمن داخلي، كالشرطة أو المباحث مثلا، لكان هذا يكفي لاعتقال المشتبه فيه، واستجوابه، وربما وضعه تحت عدة ضغوط أيضًا، حتى ينهار ويعترف، أو يكشف عن أدلة مادية، تكفي لإدانته قضائيًا.
ثم مال نحوي مستطردًا: - ولكن ماذا لو لم ينكشف الدليل؟!
تراجعت في مقعدي ببطء وحذر، ودرست السؤال في ذهني جيدًا، قبل أن أجيب في بطء: - أظننا كنا سنضطر لإطلاق سراحه.
هتف في حزم: - بالضبط.
لم أفهم ما يرمي إليه بدقة، فتطلعت إليه متسائلا، مما جعله يتابع، وقد استعاد رصانته المألوفة: - بالنسبة لأجهزة الأمن الداخية، قد يمكن استيعاب أمر كهذا، باعتبار أنها تواجه عشرات الجرائم يوميًا، ومن المستحيل أن تبلغ نسبة نجاحها في حلها مائة في المائة، أو حتى تسعين في المائة، ثم إن أجهزة الأمن الداخلية تواجه أشخاصًا ليست لهم سلطة موازية لسلطتهم، فهم إما مواطنون عاديون، أو حتى مسئولين، فلن يكونوا أبدًا فوق المساءلة، لذا فإلقائها القبض على متهم، تثبت براءته فيما بعد، أو حتى يصعب إثبات إدانته، يمكن أن يمضي بأقل خسائر ممكنة، إذ إن المواطن، أيًا كان، يخضع لقوانين دولته، التي قد تبيح احتجازه للاشتباه، أو حتى لاستكمال الأدلة، وأقصى ما يمكن أن يحدث، هو أن يطالب بتعويض مادى، لقاء ما تعرض له من معاملة قاسية أو اتهامات باطلة.
تابعته في اهتمام، توقف لالتقاط أنفاسه، ثم تابع: - أما بالنسبة لأجهزة المخابرات فالأمر يختلف تمامًا، إذ إنك، عندما تتهم شخصًا ما بالخيانة أو التجسس، إنما تتهم في الواقع دولة أخرى، بدس ذلك الشخص بين صفوفك، لانتزاع ما تخفيه من معلومات ... بمعنى أدق ... الاتهام هنا هو اتهام دول لبعضها البعض، من خلال أفراد، يعملون لحساب جهة سيادية عليا في تلك الدول، وهذا يعني أن الخطأ لن يقابله مجرد تعويض مادى، أو اعتذار ديبلوماسي، بل قد يتطور إلى أزمات سياسية عنيفة، يمكن أن تبلغ، في بعض الأحيان، حد إعلان الحرب.
اعتدلت في مقعدي بحركة حادة، هاتفًا في انفعال: - إلى هذا الحد؟!
أشار بسبابته، مجيبًا: - هناك وقائع تاريخية تؤكد هذا.
التقى حاجباى، وأنا أفكر فيما قاله جيدًا، قبل أن أقول في حذر: - أنت تعني إذن، أنه بدون دليل مادى قوي، يضمن إدانة الجاسوس والدولة التي يعمل لحسابها، تصبح القضية كلها وكأنها لم تكن.
أومأ برأسه إيجابًا، وقال: - بالضبط، ففي نظم الأمن الداخلية، يمكنك أن تلقي القبض على المشتبه فيه أولا، ثم تستكمل العثور على الأدلة فيما بعد، أما مع أجهزة المخابرات، فأنت تستكمل البحث عن كل الأدلة أولا، وعندما تمسكها بقبضتك في قوة؛ تنقض على المتهم، وتلقى القبض عليه.
عدت أتراجع في مقعدي، وأنا أقول: - آه .. فهمت.
لقد استوعبت الدرس تمامًا هذه المرة ...
الدليل أولا ...
الدليل قبل كل شئ ...
وهنا، بدأت أرى الصورة، كما يراها وجه القنفذ تمامًا ...
صحيح أننا واثقون من أن ذلك الرجل جاسوس، ولكننا لا نمتلك الدليل المادى الكافى لإدانته ...
لابد أن نبذل قصارى جهدنا للبحث عنه إذن ...
وبكل الوسائل الممكنة ...
والواقع أن الدرس، الذي لقنني إياه وجه القنفذ، كان له أفضل الأثر، في تغيير مسار قضيتي الأولى تمامًا ...
فبعد أقل من ساعة، وعندما بدأ اجتماعي مع فريق العمل، الذي انتقيته لقضيتي الأولى، كانت الخطة، التي وضعها ذهني في البداية، قد تغيرت تمامًا ...
لقد تطورت ...
وتبلورت ...
واتضحت ...
وبمعاونة وجه القنفذ، أصبحت خطة حرفية واحترافية إلى حد مدهش ...
لست أنكر أنني، في الدقائق الأولى، شعرت بشئ من التوتر لجلوسي على قمة مائدة الاجتماعات، ورياستي لطاقم عمل محترف، في قضية عملية أولى، بلا خبرات سابقة، باستثناء ما قرأته وسمعته وشاهدته ...
ثم بدأنا في مناقشة العملية، وراح التوتر يقل ...
ويقل ...
ويقل ...
حتى تلاشى تمامًا ...
تلاشى وانزوى، أمام اهتمامنا الشديد بمناقشة كل التفاصيل، وكل المعلومات، و ...
وفجأة، ارتد إلىّ ذلك التوتر كله ...
بل وتضاعف مرتين على الأقل ...
وبمنتهى العنف ...
ارتد عندما وقع بصري على صورة واحدة ...
صورة الجاسوس مع أسرته ...
مع زوجته، وابنيه، وابنته الصغيرة، التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها بعد ...
كانوا جميعهم يبتسمون ابتسامة كبيرة رقيقة ...
ابتسامة أسرة سعيدة ...
أسرة عائلها جاسوس، خائن، يبيع أسرار وطنه لأعدائه ...
ومن الواضح أن وجه القنفذ قد لاحظ ما أصابني، إذ اعتدل قائلا فجأة، في حزم شديد: - قرارك يا سيدي.
أدركت لحظتها أنه يستحثني على المقاومة، وتجاوز مشاعري الشخصية، واتخاذ القرر ببدء العملية ...
القرار الذي لابد أن يتخذه أى قائد، في أية معركة، بغض النظر عن مشاعره وانفعالاته الشخصية ...
القرار، الذي يضع المصلحة العامة وأمن الوطن، فوق كل اعتبار ...
مهما كانت الأسباب ...
وبكل ما تبقى لي من حزم وحسم، اعتدلت في مقعدي، قائلا: - سنبدأ التنفيذ على الفور.
وعلى الرغم من الألم، الذي يعتصر قلبي وصدري، بدأت في توزيع الأدوار على أفراد الفريق، لمراقبة الرجل، وتتبعه، وزرع أجهزة التنصت والمراقبة في مكتبه، ومنزله، وسيارته ...
وحتى في ثيابه الشخصية، لو اقتضى الأمر ...
وانفض الاجتماع، وعدت إلى مكتبي، حاملا معي صورة أسرة ذلك الجاسوس، ووضعتها أمامي، ورحت أتطلع إليها ...
"خطأ !"
نطق عريض المنكبين الكلمة في مرح عجيب، وهو يدلف إلى مكتبي، وابتسامته العريضة تملأ وجهه كالمعتاد، ولوح بسبابته أمام وجهه، وهو يجلس على المقعد المقابل لمكتبي، متابعًا: - لا تسمح لهذا بالحدوث أبدًا.
تنهدت، قائلا: - من الواضح أن المعلومات تبلغك بسرعة.
هز كتفيه، وقال بنفس الابتسامة المرحة: - أمر طبيعى، فأنا المشرف رسميًا، على قضيتك الأولى.
تراجعت هاتفًا، في دهشة كبيرة، حملت على الرغم مني لمحة من الاستنكار: - مشرف رسمي؟!
انطلقت من صدره ضحكة مرحة صافية، قبل أن يقول: - اطمئن ... هذا لا يعني تدخلي في عملك، أو انتزاع قيادتك التامة لقضيتك الأولى ... إنني أتابع ما تقوم به فحسب حتى يتم تقييمك للعمليات القادمة.
انعقد حاجباى، وأنا أقول: - هو أخبرك ... أليس كذلك؟!
أدرك على الفور أنني أشير إلى وجه القنفذ، فابتسم، وهو يقول: - مطلقًا ... إنه يعمل ضمن فريقك الآن، ولن يبلغ أى مخلوق آخر بما يدور داخل حجرة اجتماعاتكم أبدًا.
ثم مال، وغمز بعينه، متابعًا: - هذا يخالف قواعد العمل السرى تمامًا.
ازداد انعقاد حاجبىّ، وأنا أسأله، في شئ من العصبية: - كيف عرفت إذن؟!
ضحك مرة أخرى، وهو يشير إلى الصورة، قائلا: - هذه الصورة ضمن أوراق قضيتك، ولو نظرت خلفها، فستجد ختمًا يشير إلى هذا، ويخص المسئولين عن حفظ الملفات السرية، وفور دخولي لاحظت هذا الختم فورًا، ورأيت نظرة التأثر في عينيك.
وعاد يغمز بعينه، مستطردًا: - والأمر بعد هذا، لا يحتاج إلى الكثير من الذكاء.
حاولت أن أبتسم، وأنا أقول: - بالضبط.
التقط نفسًا عميقًا، وهو يتطلع إلى وجهي مباشرة، قبل أن يقول في جدية: - من الأمور التي ينبغي أن تدركها جيدًا، عندما تنزل إلى ميدان القتال، أو إلى رقعة شطرنج الجاسوسية، كما نسميها هنا، أن خصمك مثلك ... بشر ... شخص يحيا مثل أى شخص آخر، شخص له مهنة، وأسرة وعلاقات واتصالات اجتماعية ... الفارق الوحيد، بينك وبينه، هو أنه اختار طريق الخيانة، وأنت اخترت طريق الشرف ... ولأنه اختار طريقه بإرادته، فهو يستحق كل ما يترتب على اختياره هذا، وكل ما يؤدى إليه الطريق، الذي يسير فيه طوال الوقت.
ثم مال نحوي، متابعًا: - وعندما تتخذ قرارًا بسجن الجاسوس، أو اعتقاله، أو حتى تصفيته، لابد أن تؤمن تمامًا بأنك تؤدى واجبك، وتحقق العدالة ... كذلك يفكر القاضي على منصته، وهو يصدر حكمًا بالإعدام على قاتل، أو آخر بالسجن المؤبد على تاجر مخدرات، أو حتى ثالث بالسجن المؤقت على شاب وسيم أنيق، اغتصب فتاة بريئة، دون رحمة أو شفقة ... هكذا يفكر الجندي في ساحة القتال، عندما يصوب سلاحه إلى صدر عدوه، ويطلق عليه النار، دون تردد أو خوف ... كلهم يدركون أن من أمامهم هو بشر مثلهم، ولكنهم يثقون تمامًا في أن ما يفعلونه هو العدل.
غمغمت في خفوت: - وماذا عن الرحمة؟!
بدا شديد الجدية والصرامة، وهو يجيب في سرعة: - لا رحمة مع العدو.
ثم التقط نفسًا عميقًا، ليتابع: - فالرحمة ينبغي أن توجه إلى الضحية، وليس إلى المجرم ... الرحمة لا ينبغي بذلها دون ترشيد، وإلا لأدت إلى فوضى عارمة، لا يمكنك السيطرة عليها فيما بعد.
أطلقت كل مشاعري وانفعالاتي في زفرة حارة، قبل أن أقول: - أنت على حق ... كل شئ ينبغي أن يتوازن، حتى يستقيم الكون.
ابتسم وهو يسألني: - هل ستؤدى عملك كما ينبغي؟!
أجبته في حزم: - بالتأكيد.
تابع، وهو ينهض: - ودون أن تسمح لمشاعرك الشخصية بالتدخل؟!
أجبته، وأنا أنهض بدوري: - أعدك بهذا.
صافحته في حرارة، وقال وابتسامته تتسع: - كنت واثقًا من هذا.
واستدار ليغادر مكتبي، ثم توقف فجأة، وعاد يلتفت إلىّ، وهو يتساءل في اهتمام: - أخبرني ... ماذا ستفعل بذلك الجاسوس، بعد أن تمتلك الدليل المادى، وتوقعه في قبضتك؟!
قلت في حزم، محاولا اكتساب إعجابه: - سأقدمه إلى العدالة بالطبع، لينال جزاءه الذي يستحقه.
استعاد ابتسامته، وهو يسألني: - وهل تعتقد أن هذا أفضل ما يمكنك أن تفعله؟!
سألته في حيرة: - أليس كذلك؟!
عاد إلىّ، ومال نحوي، وقال في حزم على الرغم من ابتسامته الكبيرة: - ليس بالضرورة.
وفي هذه المرة كانت دهشتي كبيرة وعارمة ...
للغاية | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:03 pm | |
| 7-الازدواج
كل شئ سار وفقًا للخطة، بمنتهى الدقة والإحكام ..
لقد أحكمنا حصار الجاسوس، على نحو لم يحدث من قبل ..
كل مكان تطأه قدماه، كان ينقل إلينا أدق أدق أسراره، طوال الوقت ..
منزله ..
مكتبه ..
سيارته ..
وحتى ناديه الخاص ..
كل شئ أصبح مسجلا بالصوت والصورة، على نحو جعل حياته كلها، بالنسبة لنا، أشبه بكتاب كبير مفتوح ..
وعلى الرغم من هذا، لم يقع في يدنا دليل إدانته المنشود ..
لقد تسلل بعض عملائنا إلى أماكنه، وقاموا بتفتيشها، بمنتهى الدقة، وتحت إشراف قسم تنظيف خاص ..
وقسم التنظيف هذا، لمن لا يعرفون، هو القسم المسئول عن فحص كل مكان تمتد إليه أصابعنا، بالتفتيش والتنقيب، قبل أن ندلف إليه، أو حتى نمسه، وبعد أن ننهى عملنا بشأنه ..
والعاملون في هذا القسم محترفون، ومتخصصون في كشف كل وسائل الخداع، التي يمكن أن يستخدمها الجاسوس، لحماية أسراره وأدواته، وكشف أية محاولة للعبث بها ..
ومهما بلغت براعة الجاسوس، في هذا المضمار، فهم يكشفون وسائله ..
وينتبهون إليها ..
ويجيدون التعامل معها ..
بمنتهى السرعة ..
ومنتهى الدقة ..
وبعد الانتهاء من فحص كل ما نريد، ودس كل ما نرغب، في أى مكان نشاء، تصبح مهمتهم هى إخفاء ما فعلناه، وإعادة كل شئ إلى ما كان عليه، وأيضًا بمنتهى الدقة والسرعة ..
وفي هذه العملية بالذات، قام رجال قسم التنظيف بواجبهم خير قيام، في منزل الجاسوس ومكتبه، وفتحوا أمامنا الطريق؛ لكشف كل ما يخفيه فيهما، وكاد كل شئ ينتهى على خير ما يرام ..
لولا ما حدث ..
فبعد أن أنهينا عملنا، وأتمننا مهمتنا، وكنا نستعد للانصراف، وعلى الرغم من حذر كل أفراد الفريق، وعنايتهم الفائقة، فقد أحدنا توازنه بغتة، وكاد يسقط أرضًا؛ فامتدت يده بحركة غريزية، للتشبث بأى شئ، و ...
وارتطمت يده بإناء فخارى أنيق ..
ووثب آخر بكل قوته محاولا إنقاذ الإناء ..
ولكن المسافة، التى تفصله عنه، كانت كبيرة ..
بل أكبر مما ينبغى ..
وسقط إناء الزهور ..
واصطدم بالأرض ..
وتحطم ..
وهنا، أصبحنا أمام مشكلة عويصة للغاية ..
فعلى الرغم من كل حذرنا، وكل ما فعله خبراء التنظيف، قبلنا وبعدنا، ها نحن أولاء نغادر، تاركين خلفنا دليلا قويًا واضحًا، على أننا كنا هنا، إناء زهور ثمين محطم ..
وهبط علينا جميعًا وجوم محبط، ونحن نحدق في الإناء، ونحاول البحث عن كل الاحتمالات الممكنة، و ...
"لا بأس .. انصرفوا أنتم، واتركوا الأمر لنا"
قالها مسئول مجموعة التنظيف في حزم وثقة، جعلانى أسأله في حيرة قلقة متوترة : - وكيف سيمكنكم التعامل مع الأمر ؟!
أدهشنى أن ابتسم في هدوء شديد، وهو يربت على كتفى، قائلا : - سنتعامل مع الموقف .. اطمئن.
ووفقًا لنظم العمل، كان من الخطأ أن أضيع الوقت في مناقشة الموقف مع المسئول الرئيسي عنه ..
وكان من الضروري أن أنصرف مع فريقي ..
وهذا ما فعلته ..
ولكن عقلى لم يهدأ أبدًا ..
فطوال ما تبقى من الليل، لم يغمض لي جفن لحظة واحدة، وأنا أبحث عن حل لهذا المأزق، وأدير الأمر في رأسى مرات، ومرات، ومرات ..
وفي الصباح المبكر، تصورت أننى أول من وصل إلى مكتبه، إلا أننى فوجئت بعريض المنكبين أمامي، مع ابتسامته المرحة الكبيرة، وهو يهتف بصوته الجهورى : - عيناك المنتفختان تشيان بسهاد طويل .. أليس كذلك ؟!
أجبته بالإيجاب، واندفعت على الرغم مني، أروى له الموقف كله، وأشرح له مدى توتري وقلقي، وحيرتي، و ...
وفي رصانة شديدة، قاطعني هو، قائلا : - ما تفعله خطأ كبير يا صديقي .. إنهم محترفون مثلك .. أنت أديت واجبك، وهم سيؤدون واجبهم كما ينبغي، ولو إنك قضيت ليلتك ساهرًا مسهدًا، مع كل مشكلة تخص خبيرًا آخر، فسينهار عقلك تمامًا، قبل أن تبلغ مهمتك الأولى منتصفها ..
سألته في اهتمام شديد : - هل تعتقد بالفعل أنهم سيعالجون الموقف ؟!
هز كتفيه العريضين، مجيبًا : - ليس لدى ذرة واحدة من الشك.
سألته في لهفة : - وكيف سيفعلونها ؟!
أجاب في سرعة : - سيجدون وسيلة ما.
ثم أضاف في صرامة، تخالف طبيعته تمامًا : - إنهم محترفون.
وعلى الرغم من أن عبارته لم تضع جوابًا شافيًا لحيرتي، إلا أن الحزم الذي نطقها به، جعلني أهدأ تمامًا، وأشكره بشدة، ثم أجرى اتصالا بوجه القنفذ؛ لأضع معه اللمسات الأخيرة للعملية ..
وبابتسامته المرحة، التي صرت أعشقها، نهض عريض المنكبين، قائلا : - عظيم .. ها أنتذا تتحول إلى محترف حقيقي.
ولا يمكنكم أن تتصوروا كم أسعدتني عبارته، وأمتعتني، وبثت في عروقي المزيد والمزيد، من الثقة والقوة ..
وفي اجتماع المجموعة، رحنا نناقش كيفية وموعد إلقاء القبض على الجاسوس، والوسيلة التي سنتعامل بها معه، بعد أن تكتمل الأدلة، ويسقط في قبضتنا، و ...
وفي نهاية الاجتماع، ملت على وجه القنفذ، أسأله هامسًا : - هل تدري ما الذي فعلوه أمس، بشأن إناء الزهور المحطم ؟!
مال نحوي بدوره، وهمس بكل رصانته المعهودة : - لقد حطموا نافذة المطبخ من الخارج، وألقوا عبرها قطًا ضالا إلى داخل الشقة.
وانتفض كياني كله، بمنتهى الدهشة والانبهار !!
يا له من حل بسيط ورائع !!
قط ضال، حطم نافذة المطبخ، وتسلل من باقى قضبانها إلى الداخل، هو التفسير المنطقي المقبول، والبعيد تمامًا عن الشكوك؛ لتحطم الإناء داخل المكان !!
عبقرية حقيقية ..
واحتراف حقيقي !
لقد كان عريض المنكبين على حق ..
إنهم محترفون !
المهم خطتنا تواصلت لأسبوع آخر، قبل أن تجتمع لدينا كل الأدلة التي نحتاجها؛ لإنهاء العملية، وإلقاء القبض على الجاسوس ..
وفي اليوم الموعود، حاصرنا منزله، واتخذنا مواقعنا، بمنتهى الدقة والحذر، وانتظرنا حتى بدأت أجهزتنا في رصد حالة بث لاسلكي ..
ثم انقضضنا على المنزل ..
وكان من المستحيل أن ينكر الجاسوس التهمة ..
لقد فوجئ بنا نحيط به من كل جانب، وهو يجلس أمام جهاز الاتصال اللاسلكي، وفي يده كتاب الشفرة ..
وبسرعة، كنا نضع أيدينا أمامه، على كل ما يخفيه ..
كل أدوات التجسس ..
ومخابئ المعلومات ..
كل شئ ..
وانهار الجاسوس تمامًا أمام أسرته، وأعلن رغبته في الاعتراف ..
والتعاون ..
وهنا استعدت حواري مع عريض المنكبين، عندما سألني عن أفضل ما يمكنني أن أفعله بعد أن يقع الجاسوس في قبضتي ..
"أن تنقل ولاءه إليك"
جوابه يومها أصابني بدهشة مستنكرة، وجعلني أقول، في شئ من الغضب والتوتر : - أى ولاء هذا ؟! إنه مجرد جاسوس خائن لوطنه !
أشار بسبابته في مرح، وهو يقول : - لكنه ما زال مواطنًا، ودوافع تجنيده لم تكن أبدًا كراهية هذا الوطن.
لم أفهم يومئذ ما يعنيه، فسألته في توتر : - ما الذي تعنيه بالضبط ؟!
مال عندئذ نحوي، وهو يسألني في شئ من المرح : - هل سمعت من قبل عن (الجاسوس المزدوج) ؟!
أجبته في اهتمام : - بالطبع .. إنه الجاسوس مزدوج الانتماء، الذي يعمل لحساب جهتين في آن واحد.
هز رأسه نفيًا، وهو يقول بنفس الابتسامة المرحة : - خطأ يا صديقي .. لا يوجد في الوجود كله شخص يعاني من حالة ازدواج في الانتماء .. كل شخص ينتمي حتمًا لجهة واحدة، أو عقيدة واحدة، أو وطن واحد .. أما الجاسوس المزدوج فهو شخص يعمل لحساب جهتين، تتصور كل منهما أنه ينتمي إليها، ولكن الواقع أنه ينتمي لجهة واحدة منها، تساعده وتعاونه، بكل رجالها وخبرائها، لخداع الجهة الثانية، ودفعها إلى الاقتناع بولائه وإخلاصه لها ..
كان التعريف منطقيًا قويًا، حتى إننى تراجعت في انبهار، مغمغمًا : - هذا صحيح.
هز كتفيه العريضين، قائلا : - ومنطقى أيضًا، فلا يمكنك أن تتصور لاعبًا واحدًا، مهما بلغت مهارته، ينزل إلى ملعب كرة القدم مثلا؛ لينازل فريقين قويين، بكافة طاقميهما، ثم ينجح في هزيمتهما معًا.
ابتسمت، مغمغمًا : - بالتأكيد.
وهنا اتسعت ابتسامته المرحة، وهو يعتدل؛ ليبدو أكثر قوة وأعلى قامة، وهو يقول : - اتخذ قرارك من هذا المنطلق إذن .. سل نفسك .. ما الأكثر فائدة لوطنك .. هذا هو المعيار الوحيد.
استعدت الحوار كله، وأنا أواجه ذلك الجاسوس، الذي بدا يائسًا منهارًا، ثم شددت قامتي، وأنا أسأله في قوة : - ترى ألديك استعداد للتكفير عن جريمتك، في حق وطنك ومواطنيك ؟!
هتف، كالغريق الذي يتمسك بآخر قشة للنجاة : - سأفعل كل ما تطلبونه مني.
وانعقد حاجباى في صرامة، وأنا أتطلع إلى عينيه مباشرة، وذهني يرسم ملامح الجولة التالية ..
فمنذ هذه اللحظة، بدأت اللعبة تتخذ أبعادًا جديدة ..
وخطيرة ..
إلى أقصى حد.
| |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:04 pm | |
| 8-السقوط
من المؤكد أن العمل في أى جهاز مخابرات، لا يمكن أن يصيب صاحبه بالملل أبدًا، فكل يوم لابد وأن يحمل لك خبرة جديدة، أو مفاجأة مثيرة، أو درسًا يفيدك كثيرًا أن تتعلمه ..
وعندما أوقعنا بذلك الجاسوس، وأحكمنا قبضتنا حوله، كنت أبدأ مرحلة جديدة من عملي، تختلف تمامًا عن كل المراحل السابقة ..
مرحلة التعامل المباشر، مع جاسوس مزدوج ..
في البداية، قمنا بنقله إلى مكان خاص مؤمَّن، خارج المبنى الرئيسي لنا، وهناك ووفقًا لما تعلمته، على يد عريض المنكبين ووجه القنفذ، طلبت منه أن يكتب اعترافًا كاملا بما حدث ..
ولقد أطاع الرجل أوامري دون مناقشة، وكتب الاعتراف بأصابع مرتجفة، وهو يتوقف في كل لحظة، ليسألنا إذا كان من الضروري أن يضيف التفاصيل الصغيرة والدقيقة، وكنا نؤكد له في كل مرة، وبصبر وهدوء شديدين، حتمية أن يفعل هذا ..
وخلال ساعة كاملة تقريبًا، كتب الرجل اعترافه التفصيلي، في ثمان صفحات كبيرة ..
وعندما قدم إلىّ اعترافه، سألني بلهجة أقرب إلى الضراعة عما إذا كنت صادقًا، في العرض الذي قدمته له، فأكدت له هذا، ثم راجعت اعترافه، وادعيت أن خطه غير مقروء بسبب اضطرابه وتوتره، وطلبت منه أن يعيد كتابته بنفس التفاصيل مرة ثانية ..
كان الغرض من هذا، كما درست جيدًا، هو أن يضيف الجاسوس أية تفاصيل جديدة، ربما تكون قد أفلتت من ذهنه، وهو يدون اعترافه الأول، الذي وضعه تحت تأثير انفعالاته الجارفة ..
ولقد استغرقت كتابة الاعتراف للمرة الثانية أربع وأربعين دقيقة فحسب، وكان يحوي بالفعل بعض التفاصيل الصغيرة، التي لم تظهر في المرة الأولى .. وهنا، طلبت منه كتابة اعترافه للمرة الثالثة ..
وعلى الرغم من حيرته، عاد الرجل يكتب الاعتراف، ويضيف إليه معلومة صغيرة هنا، أو موقف عابر هنا، أو عبارة لم يتذكرها في المرة الأولى أو الثانية ..
وهكذا ..
وبعد انتهائه من كتابة اعترافه التفصيلي للمرة الثالثة، في ثلاث وثلاثين دقيقة، تناولته منه، وناولته لأحد أفراد الفريق، الذي أسرع به إلى قسم خاص، يتولى مراجعة التفاصيل، وتحديد مدى صدقها، ومدى تورط الرجل، في العمل لحساب جهاز المخابرات المعادي ..
أما أنا، فقد بدأت مع وكيل النيابة عملية الاستجواب ..
وأمام عدسات الفيديو، راح الرجل يدلي شفاهة باعتراف تفصيلي جديد، يحوي كل شئ بلا استثناء ..
تحدث عن أسلوب الإيقاع به هناك، في الدولة التي يعمل لحسابها، ودفعه قهرًا إلى العمل ضد دولته الأم ..
والواقع أن الأسلوب الذي اتبعوه كان يستحق التقييم والدراسة بالفعل، ولقد ساعدتهم كثيرًا نظمهم المغلقة، وقوانينهم الصارمة الجافة ..
ولقد بدأ الأمر منذ ما يزيد قليلا على الأعوام العشرين، أيام أن كان الرجل معيدًا صغيرًا، في واحدة من الكليات العملية، ما زال متفتحًا للحياة، ويحلم بالحصول على شهادة الدكتوراه التي ستؤهله للتفوق في عمله، والصعود إلى أعلى المراتب ..
ولأنه أحد القليلين في تخصصه، فقد حصل على منحة خاصة، للحصول على رسالة الدكتوراه من إحدى الدول الباردة، ذات المكانة المتميزة، على الخريطة العالمية ..
وسافر المعيد الشاب إلى تلك الدولة، وكله شغف إلى بدء دراسته مستعينًا بإمكانياتها المتقدمة، ومعاملها الضخمة الشهيرة ..
ولأنه ينتمي إلى بعثة رسمية تتبع الدولة، كانت مخصصاته المالية محدودة، تكفي بالكاد لحياة هادئة بسيطة، وفقًا لأسعار الصرف الرسمية هناك ..
ثم ظهر فجأة ذلك الشخص، الذي يتواجد حتمًا، في كل عملية من عمليات الجاسوسية والمخابرات ..
الشخص الأنيق، الوسيم، الظريف، الودود، الذي يجيد عقد الصداقات والارتباطات، والذي يظهر دومًا فور الحاجة إليه، كما لو أنه جنى مصباح (علاء الدين) الشهير ..
وعندما ظهر ذلك الشخص، ارتبط ظهوره لدى المعيد الشاب بانتعاش مالي مباغت، إذ أقنعه بعقم استبدال ما يتم إرساله إليه عبر الوسائل الرسمية، في الوقت الذي يبلغ فيه سعر السوق ثلاثة أضعاف هذا الرقم على الأقل ..
وعندما أبدى المعيد الشاب تخوفه، من عنف العقوبة، المفروضة على كل من يتجاوز النظم الاقتصادية الرسمية؛ لجأ ذلك الشخص إلى طمئنته، وأكد له أنه سيتولى الأمر بنفسه، وسيجنبه كل المخاطر الممكنة ..
وبمنتهى القلق والتوتر، جازف المعيد الشاب بإعطاء ذلك الشخص نصف ما وصله من دولته، وراح يرتجف في منزله، متسائلا عما يمكن أن يحدث، لو سقط ذلك الشخص في قبضة الشرطة، وهل سيشي به أم لا، وحاول أن يهدئ نفسه بأنه لا يوجد أى دليل على أنها نقوده، وأنه يستطيع الإنكار بكل إصرار، و ....
ولكن ذلك الشخص عاد بسرعة، وهو يحمل النقود المحلية ..
ثلاثة أصعاف التحويلات الرسمية بالفعل ..
وكان من الطبيعي أن يسعد المعيد الشاب جدًا، بعد أن تضاعف دخله الشهري ثلاث مرات دفعة واحدة، مما ساعده على أن يحيا برفاهية أكثر، وأن يبتاع العديد من البضائع الرخيصة المدعومة، التي ستوفر له الكثير، عندما تحين لحظة الارتباط والزواج ..
واستمر الموقف، وتكرر في كل شهر ..
واعتاد الشاب هذه الحياة المترفة ..
ثم فجأة، اختفى ذلك الشخص !
اختفى تمامًا، مع بداية الشهر الجديد، ولم يستطع الشاب العثور عليه أبدًا .. ومضت بضعة أيام من الشهر، والشاب يواصل البحث عن ذلك الشخص، وتوتره يتضاعف ..
ويتضاعف ..
ويتضاعف ..
وعندما بلغ توتره مبلغه، ولم يعد أمامه سوى الاستسلام، وتغيير ما لديه بالأسعار الرسمية، تلقى اتصالا مفاجئًا من ذلك الشخص ..
وبكل لهفة الدنيا، سأله عن غيابه، وعن سر اختفائه، وأحبط تمامًا بعد أن أبلغه ذلك الشخص أنه في بلدة بعيدة، في عمل مهم جدًا، وأن لن يستطيع العودة، قبل منتصف الشهر التالي ..
ثم طلب منه ذلك الشخص أن يقوم بعملية الاستبدال بنفسه، وطمأنه بأن هذا سيتم عند ناصية بنايته، وفي دقيقة واحدة، ودون أن يشعر أحد؛ فكل ما عليه هو أن يذهب إلى الناصية، في السادسة مساءً بالضبط، وسيجد الرجل في انتظاره؛ ليسلمه حقيبة تحوي النقود المحلية، ويتسلم منه نقود البعثة، ثم ينصرف كلاهما إلى حال سبيله ..
وعلى الرغم من قلق الشاب وتحفظه، إلا أنه قرر المجازفة بإتمام التبادل شخصيًا؛ حتى لا يخسر الفارق الكبير لسعر الصرف ..
وفي السادسة تمامًا، هبط المعيد الشاب إلى ناصية بنايته، وكان ذلك الرجل في انتظاره، وهو يحمل حقيبة النقد المحلي ..
كل شئ سار تمامًا، كما أخبره به ذلك الشخص ..
لولا فارق واحد ..
لقد ألقت الشرطة القبض عليهما معًا، متلبسين بمخالفة القوانين الاقتصادية الصارمة !
وانهار المعيد الشاب ..
انهار تمامًا ..
وبمنتهى القسوة والخشونة، عامله رجال الشرطة المحليين، وهم يستجوبونه طوال يومين كاملين، على نحول متصل، دون أن يسمحوا له بإغماض عينيه لحظة واحدة، وهم يواصلون الصراخ في وجهه دون انقطاع، بمنتهى الوحشية والشراسة ..
وبعد أن نفدت طاقته تمامًا، تم إلقاؤه، مع عشرة آخرين، في زنزانة ضيقة حقيرة، لا تليق بحيوان أجرب، وطلبوا من الجميع التطلع إلى نافذة بابها طوال الوقت، مع تحذير قاس، بأن من يحول عينيه عن تلك النافذة الصغيرة، ولو لحظة واحدة، في الليل أو النهار، سينقض عليه الحراس، وينتزعونه من مكانه، وينهالون عليه ضربًا، حتى يفقد الوعى ..
وخلال ساعته الأولى، في تلك الزنزانة الرهيبة، أثبت الرجال أنهم لم يبالغوا لحظة فيما قالوه، بعد أن انتزعوا رجلين بالفعل، وأوسعوهما ضربًا، حتى تحطم صدر أحدهما، ونزف الآخر من كل فتحات جسده في غزارة ..
وبعد يومين آخرين، في تلك الظروف الرهيبة، كان الشاب مستعدًا للتعاون مع الشيطان نفسه، لو أنه عرض عليه إخراجه من هذا الجحيم ..
لذا كان من السهل جدًا أن يقبل عرض جهاز المخابرات، في الدولة نفسها، خاصة وأنهم أكدوا له أنهم لا يبتغون أية معلومات عن وطنه الأم، بل عن الأجانب المقيمين فيه فحسب ..
وفور موافقته، سلمه رجال المخابرات هناك رزمة من النقد المحلي، ثم طلبوا منه توقيع إيصال بالاستلام ..
ودون أن يفكر لحظة واحدة، وقع المعيد الشاب الإيصال، الذي يثبت أنه قد تقاضى ذلك المبلغ، من مخابرات دولة أجنبية ..
وهكذا سقط في قبضتهم تمامًا ..
وفي عالم المخابرات، يقال : إنه قد أصبح ملكًا لهم ..
وعندما عاد إلى موطنه، بعد نهاية بعثته، كان يرتجف ذعرًا، خشية أن ينكشف أمره، ويضيع مستقبله كله ..
ولكن أحدًا لم يستوقفه، أو حتى ينتبه إليه ..
بل ولم يطالبه جهاز المخابرات الأجنبية بأية معلومات، عن أية جهة، وحتى عن الأجانب المقيمين ..
ومرت سنوات .. وسنوات .. وسنوات ..
ومع مرورها، نسى هو الأمر تمامًا، أو أنه قد ألقاه في جزء مهمل من ذاكرته، وراح يمارس حياته الطبيعية، ويترقى في مجال عمله، حتى بلغت شهرته حدًا كبيرًا، أقنع المسئولين بتعيينه في منصب كبير وحساس، و ....
وهنا فقط، ظهر جهاز المخابرات الأجنبي ..
ظهر حاملا عشرات الصور، والتسجيلات، والإيصال الذي يثبت تورطه في العمل معهم ..
وعندئذ فقط، ظهرت مطالبهم، وحاجتهم إلى المعلومات، عن الأجانب المقيمين، وعن أبناء وطنه أيضًا ..
ولأن سقوطه من هذا الموقع الحساس سيكون مدويًا، لم يجد أمامه سوى الاستسلام ..
والخيانة ..
ولكن حتى هذا لم يمنعه من السقوط ..
وبمنتهى العنف، و ....
"المستوى الثالث"
نطقها أحد أفراد الفريق، وهو يناولني تقرير القسم الخاص، عن الاعتراف التفصيلي للرجل، فالتقطته من يده، وطالعته بمنتهى الاهتمام، قبل أن أرفع عينىّ إلى ذلك الجاسوس، قائلا في صرامة :
- لماذا لم تذكر في اعترافك أنهم قد استدعوك لدورتين تدريبيتين خارج الوطن؟!
واتسعت عينا الرجل، وسقط فكه السفلي في ذهول تام ..
فما أخفاه عنا، وما أخبرته به، كان حقيقيًا ..
تمامًا.
| |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:05 pm | |
| 9-مستويات اللعبة على الرغم من أنني قد درست مئات الحالات، قبل أن أبدأ عملي فعليًا، وشاهدت عشرات الأفلام، لحالات استجواب جواسيس، بعد سقوطهم في قبضة أجهزة المخابرات، إلا أنها كانت أول مرة أشاهد فيها صدمة الجاسوس، على نحو مباشر ..
فهناك، في حجرة الاستجواب، وعندما واجهت الجاسوس بأنه قد أخفى معلومات حيوية عنا، في اعترافاته التفصيلية، أصابه ذهول شديد، حتى كدت أشعر نحوه بالشفقة !
لقد اتسعت عيناه عن آخرهما، وجحظتا حتى كادتا تثبان من مجريهما، وارتجفت أطرافه بشدة، واصطكت أسنانه، وغمر العرق البارد وجهه، وبدا صوته أشد شحوبًا من قسماته، وهو يقول :
- إنني لم أتعمد هذا.
ألقيت تقرير اللجنة إليه، وأنا أقول في صرامة :
- ماذا تسمي ما فعلته إذن ؟!
بدت الحيرة واضحة في ملامحه، وهو يبحث باستماتة عن جواب، قبل أن يندفع قائلا في مرارة :
- لقد نسيت.
كانت حجة سخيفة تافهة، زادت من احتقاري للرجل وغضبي منه، وأنا أقول في صرامة أشد :
- نسيت ماذا ؟! نسيت دورتين تدريبيتين كاملتين ؟! قل لي يا رجل : أين قاموا بتدريبك، على وسائل التجسس المتطورة ؟! في أية دولة ؟!
بدا منهارًا، وهو يغمغم :
- وهل سيصنع هذا فارقًا ؟!
أجبته بنفس الصرامة القاسية :
- كل معلومة يمكن أن تصنع فارقًا، مهما بلغت ضآلتها أو دقتها .. لقد أخبرتك بهذا منذ البداية.
ثم ملت نحوه، مستطردًا :
- ومن المؤكد أنهم أخبروك به أيضًا.
عادت أطرافه ترتجف، وخفض عينيه في انهيار تام، وبدا صوت نحيبه واضحًا، فلم ينبس أى منا ببنت شفة، كما تقتضي القواعد، واكتفينا بالتطلع إليه صامتين، حتى غمغم في انهيار :
- هل يمكنني أن أكتب اعترافي مرة أخرى ؟!
أجبته بمنتهى الصرامة، وأنا أدفع الأوراق والقلم إليه :
- بالتأكيد.
استغرقت كتابة اعترافه التفصيلي للمرة الرابعة ما يزيد عن الساعة هذه المرة، ولكنه أضاف إليه كل التفاصيل، التي أغفلها عامدًا فيما مضى ..
أضاف إليها مرحلة تعاونه، مع جهاز المخابرات الأجنبي، ونشاطه السري، بعد أن تولى منصبه، والمعلومات التي منحها لهم، والتي طالبوه بعدها بالسفر إليهم، في واحدة من دول (أوروبا)، حيث قاموا بتطوير أداءه، عن طريق برنامج تدريبي، عاد بعده إلى وطنه الأم، وهو أكثر كفاءة في مضمار التجسس ..
ولعام كامل تقريبًا، واصل مشوار الخيانة، ومنحهم المزيد والمزيد من المعلومات، مما جعلهم يقررون تطوير أداءه مرة أخرى، فاستدعوه ليتلقى الدورة التدريبية، التي أهلته للوصول إلى المستوى الثالث .. وفي العالم الجاسوسية، لا يمكن للجاسوس أن يترقى، من مستوى إلى آخر، إلا لو أثبت نجاحه في المستوى السابق ..
وأجهزة المخابرات لا تمنح أسرارها لأحد عبثًا، فإذا ما تعاملت معه، باعتباره جاسوسًا بسيطًا، فهى تضعه في المستوى الأول، وتمنحه من التدريبات والمعلومات ما يكفيه للقيام بدوره، على هذا المستوى فحسب ..
وعندما يجتهد الجاسوس في خيانته، ويمنح سادته الكثير من المعلومات المفيدة، يتم نقله إلى المستوى الثاني، حيث يتلقى تدريبات أكثر، ويتعرف وسائل أحدث، ويمتلك القدرة على نقل المعلومات بالصوت والصورة أيضًا ..
ومع إثباته فائدته، يتم نقله إلى المستوى الثالث ..
وهكذا ..
ومن النادر أن تجد جاسوسًا أو عميلا، على دراية كافية بلعبة المستويات، أو بمستويات اللعبة هذه، فكل ما يدركه هو أنه يتم تدريبه كل فترة زمنية، للقيام بأعمال أكثر ..
وعندما يدلي الجاسوس باعترافه، يحاول دومًا إنكار تورطه، حتى آخر رمق، ويسعى لتجنب كل ما يثبت رضاه وتورطه أو تطوره ..
لذا فهناك خبراء لمراجعة هذا الاعتراف ..
خبراء يدرسون كل سطر، وكل جملة، وكل كلمة ..
بل وكل حرف ..
وبحرفية مدهشة، ودراسات علمية دقيقة، يمكنهم استخلاص المستوى التدريبي، الذي بلغه الجاسوس، من خلال اعترافه، ومن خلال ما تم العثور عليه معه أو في منزله، لحظة إلقاء القبض عليه ..
وعبر هذا وذاك، تمكن الخبراء من الجزم بأن جاسوسنا هذا قد بلغ المستوى الثالث من التدريبات، وهذا يعني أنه قد تلقى دورتين تدريبيتين على الأقل ..
ويعني بالتبعية أنه قد منح الخصم الكثير ..
والكثير جدًا ..
وبعد تكرار اعترافه التفصيلي للمرة الخامسة، انهار الجاسوس تمامًا، وراح يبكي في مرارة، في حين رحت أنا أتطلع إليه في صمت، وعقلي يسترجع كلمات عريض المنكبين، في اجتماعنا الأخير ..
" في لحظة ما، سيكون عليك تقييم الأمر كله على نحو شخصي، وبغض النظر عن درجة تورط الشخص، فمهمتك هى أن تتخذ القرار .. إما أن تتركه ليلقى مصيره المحتوم، أو تجازف بمحاولة تجنيده لحسابك .. "
من الناحية المنطقية، كان التخلي عنه أقل مجازفة، فإعلان خيانته سيعد انتصارًا لجهاز مخابراتنا، وطعنة في قلب جهاز مخابرات العدو، ولن تكون هناك مخاطر، أو عقبات، أو احتمالات فشل ..
أما السعى لتجنيده كعميل مزدوج، فكان يضع كل الاحتمالات، على كفتين متوازنتين .. النجاح والفشل .. الأمان والخطر .. المكسب والخسارة ..
ولم يكن اتخاذ القرار هينًا أو بسيطًا، وكان علىّ أن أدرس الموقف جيدًا، وأراجع كل نقطة منه في ذهني ..
ولسبب ما، شعر وجه القنفذ بما يدور في أعمق أعماقي، فتسلل إلى جواري، وهمس في أذني :
- ماذا سنفعل به ؟!
أحنقني أن يلقي سؤاله هذا، في اللحظة التي بلغت فيها حيرتي ذروتها، فهمست بدوري في حدة :
- ماذا ستفعل أنت، لو كنت في موضعي ؟!
هز كتفيه، وهو يجيب برصانته المعهودة :
- هذا يتوقف على عامل مهم جدًا.
همست، في شئ من العصبية :
- أتعني انتماءه وولاءه ؟!
كنت أتوقع جوابًا إيجابيًا حاسمًا، إلا أنني فوجئت به يهز رأسه نفيًا وهو يهمس بتلك الرصانة، التي أصبحت تثير حنقي :
- كلا.
التفت إليه بدهشة مستنكرة، فمال نحوي مرة أخرى، هامسًا :
- بل على الفائدة المرجوة من تجنيده لحسابنا.
بدا لي جوابه منطقيًا كالمعتاد، على الرغم من مخالفته لكل ما دار في ذهني طوال الوقت، مما ضاعف من حنقي، وأنا أتمتم :
- بالتأكيد.
رحت أعيد دراسة الموقف في ذهني، على ضوء المعطيات الجديدة، التي أنارها وجه القنفذ في عقلي، في حين مسح الجاسوس دموعه، وغمغم في مرارة فائقة :
- لم يكن أمامي خيار آخر.
شتتت عبارته تفكيري، وجعلتني أقول في صرامة :
- كل إنسان يملك الخيار التام، في كل قرار يتخذه بإرادته.
قال في مزيج من المرارة والعصبية :
- وماذا كنت ستفعل، لو أنك في موضعي ؟! ماذا كان ينبغي أن أفعل ؟!
أجبته في صرامة أكثر :
- ما ينبغي أن يفعله أى مواطن شريف .. تأتي إلى مبنى المخابرات، الذي يعرفه الجميع، وتقص علينا كل ما حدث.
قال في عصبية أكثر :
- وهل كنتم ستصدقونني عندئذ ؟!
ملت نحوه، قائلا :
- كنا سنعلم أنك صادق، كما علمنا الآن أنك كاذب.
اتسعت عيناه عن آخرهما، وكأنما صدمته هذه الحقيقة البسيطة، وظل يحدق فىّ بضع لحظات، قبل أن يعاود الانهيار، مغمغمًا :
- إذن فقد خسرت كل شئ.
لم أحاول حتى إجابة عبارته، أو التعليق عليها بحرف واحد، قبل أن أتخذ قراري بشأنه، في حين غمغم وجه القنفذ برصانته المستفزة :
- لقد وصلت إلى المستوى الأخير.
هتف الجاسوس، بكل ذعر الدنيا :
- حقًا ؟!
ثم انهار تمامًا ..
انهار، وراح يبكي، وينتحب، ويضرب المائدة بقبضتيه في مرارة، وقد أيقن من أنه قد خسر اللعبة، وفقد أسرته وعمله ومستقبله، وكل ما تصور أنه يستطيع بناءه، عبر خيانة وطنه وشعبه ..
وهنا، وبينما أتطلع إلى حالة انهياره التام هذه، قفز القرار إلى ذهني بغتة ..
قرار يختلف عن كل ما يمكن أن يتوقعه أو يفترضه وجه القنفذ ..
يختلف تمام الاختلاف، على نحو أدهشني أنا شخصيًا ..
وبشدة .. | |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:06 pm | |
| 10-الجانب الآخر
لدقيقة كاملة تقريبًا، حدق عريض المنكبين في وجهي، دون أن ينبس ببنت شفة، ونحن نجلس في مكتبه، ثم لم يلبث أن اعتدل، ومال نحوي، قائلا :
- هل لك أن تكرر ما قلته مرة أخرى ؟!
التقطت نفسًا عميقًا، في محاولة للسيطرة على تلك الرهبة، التي تنتابني دومًا، كلما جلست قبالته، وقلت مكررًا :
- أريد رفع قيمة ذلك الجاسوس، لدى الدولة الأجنبية، التي يعمل لحسابها.
تساءل في اقتضاب :
- ثم ؟!
أجبته في سرعة :
- ثم أوقع عبره أى جواسيس آخرين.
مرة أخرى، تطلع إلىّ في صمت، ثم تراجع في مقعده، قائلا :
- هل يمكنك أن تشرح لي الأمر أكثر.
لست أدري لماذا انتابتني سعادة جمة، عندما سألني تفسيرًا أكثر استفاضة، حتى أنني شعرت بحماس عجيب، وأنا أجيبه :
- من مطالعتي لبعض ملفاتنا، علمت أنه لدينا عميل خامل، في نفس الدولة، التي جندت الجاسوس، وهناك شكوك قوية بأن ذلك العميل قد انقلب علينا، وقرر التوقف عن العمل لحسابنا، بعد أن حصل على مكافأة سخية .. وما أفكر فيه الآن، هو أن أستخدم هذا الجاسوس لحرق العميل الخامل.
ارتفع حاجباه في إعجاب واضح، أثلج صدري كثيرًا، وهو يقول :
- إذن فستدرب الجاسوس، الذي ألقينا القبض عليه، على ادعاء الحصول على معلومات مهمة، تشير إلى أن ذلك العميل الخامل يعمل لحسابنا، وعندما يتحققون في تلك الدولة عن الأمر، سيكتشفون أن المعلومة صحيحة، وستزداد لديهم قيمة جاسوسهم هذا، ويرفعونه إلى مستوى متقدم.
تراجعت في مقعدي، وحاولت السيطرة على حالة الزهو التي انتابتني، وأنا أقول :
- ما آمله، هو أن يبلغ المستوى الأخير.
انعقد حاجباه في تساؤل، فأضفت في حماس :
- مستوى الجاسوس المقيم.
ارتفع حاجباه لحظة، ثم عادا ينخفضان، وهو يقول :
- والجاسوس المقيم هو أعلى رتب الجواسيس.
هتفت في حماس :
- ليس هذا فحسب، ولكنه المسئول عن كل الجواسيس والعملاء في منطقته أيضًا، ومحور الارتكاز الرئيسي لكل شبكات التجسس من حوله.
ثم ملت نحوه، وتضاعف حماسي، وأنا أضيف :
- لو عملنا على أن ترتفع رتبة الجاسوس إذن، وأحكمنا السيطرة عليه، وتطويعه للعمل لحسابنا، فسيمكننا عبره، خلال عام أو عامين، أن نكشف مجموعة كبيرة من الجواسيس المماثلين في نطاقنا.
حك عريض المنكبين ذقنه بضع لحظات، قبل أن يشير بيده، قائلا :
- الجاسوس بطبعه شخص خائن، لا يمكن ضمان ولائه، وتطويعه لمهمة كهذه لن يكون بالأمر السهل.
هززت كتفى، قائلا :
- ومن قال إن عملنا ينشد السهل ؟!
اتسعت ابتسامته، وبدت لي أشبه بوسام نصر، وهو يقول :
- على بركة الله إذن.
ولأن القرارات الخطيرة كهذا، لا يمكن أن تتخذ بصورة فردية، في أى جهاز مخابرات في العالم، فقد طلبت عقد اجتماع، مع مجموعة من الخبراء، من بينهم عريض المنكبين، وحضره - أيضًا - وجه القنفذ، حيث طرحت فكرتي، ورحت أناقشها معهم لأربع ساعات كاملة، قبل أن تنال موافقتهم، مع بعض التحفظات والتوجيهات البسيطة ..
وكان علىّ أن أبدأ مرحلة التنفيذ ..
ووفقًا لنظام العمل الدقيق، كنا قد قمنا بتغطية غياب الجاسوس عن عمله، تحسبًا لما يمكن أن يسفر عنه الأمر؛ لذا فقد اجتمعت معه على الفور، ولم يكن قد فارق بعد حالة الانهيار التي أصابته، منذ إلقاء القبض عليه، ولقد تعمدت أن أتركه أمامي، في حالته هذه لبعض الوقت، قبل أن أسأله، في شيء من الصرامة :
- هل تشعر بالندم ؟!
أومأ برأسه في مرارة، وهو يجيب :
- وبالضياع أيضًا.
تراجعت في مقعدي، وعقدت أصابع كفي أمام وجهي، قائلا :
- وماذا لو أن لديك فرصة للتكفير عما فعلت ؟!
انسدلت الدموع من عينيه، وهو يغمغم :
- بالسجن ؟!
ملت نحوه، قائلا في حزم :
- بل بالتعاون.
كان قولي هذا أشبه بطوق نجاة، تلقاه الرجل وسط بحر ثائر، متلاطم الأمواج؛ لذا فلم يكد يسمعه، حتى هتف - بكل لهفة الدنيا - :
- أنا مستعد لفعل كل ما تريدون.
وبالنسبة لنا، لم يكن قوله هذا كافيًا، لتأكيد استعداده الفعلي للتعاون؛ لذا كان علىّ إخضاعه لسلسلة طويلة من العمليات والتدريبات، والاختبارات أيضًا؛ للتأكد من استعداده، وولائه، وقدرته على لعب الدور الصعب، الذي سيسند إليه ..
كان عليه أولا أن يبقى على اتصالاته مع جاهز مخابرات الخصم، على نحو لا يمنحهم أدنى شك في أمره، وفي استمرار تعاونه معهم، وفي الوقت ذاته كان عليه الخضوع لعدة جلسات نفسية خاصة، تستهدف في مرحلتها الأولى، تحييده، وفي الثانية جذبه، وفي الثالثة تأكيد استعداده ..
والواقع أن الرجل قد أبدى تعاونًا تامًا، باعتبارها أفضل فرصة يمكن أن يحصل عليها، في موقفه هذا، وكان يكفيه أن يعود إلى منزله، ويقضي ليلته بين أسرته، ثم يعود في الصباح، ليتلقى تدريباته ..
ولقد أفادتنا كثيرًا التدريبات، التي تلقاها في جهاز المخابرات المضاد، والتي أهلته للعب دوره، ثم استغللناها نحن لنوجه به ضربتنا إليهم ..
وتحويل ولاء الجاسوس، ليس بالأمر السهل أو الهين، أو حتى المضمون؛ لذا فهو يستغرق فترة طويلة للغاية، ويحتاج إلى رجل مخابرات متفرغ طوال المرحلة ..
ولقد احتاج منا هذا إلى ستة أشهر كاملة، بلغ الإرهاق في خلالها مبلغه، حتى إنني فوجئت ذات يوم بوجه القنفذ إلى جواري، يقول في إشفاق، امتزج برصانته المعهودة :
- أظنك تحتاج للراحة.
انتبهت، في تلك اللحظة فقط، إلى أنني قد غفوت على مقعدي، فانتبهت متوترًا، وأنا أقول :
- لا بأس .. إنها غفوة بسيطة.
تمتم في رصانة :
- الغفوة قد تعني الكثير، في هذا العالم.
شعرت بالحرج لقوله، واعتدلت على مقعدي، وأنا أسأله في شيء من الصرامة، أردت أن أخفي بها حرجي :
- هل وصلت آخر تقارير المتابعة ؟!
أومأ برأسه إيجابًا، برصانته التي تستفزني أحيانًا، ووضع أمامي ملفًا كبيرًا، وهو يقول :
- الخبراء يقولون إنه صار مؤهلا.
التقطت نفسًا عميقًا في ارتياح، وأنا أقول :
- عظيم .. يمكننا أن نبدأ مرحلة التنفيذ إذن.
ومرحلة التنفيذ هذه ليست خطوة واحدة، كما قد يبدو من منطوقها، وإنما هى عدة مراحل، مدروسة بمنتهى الدقة، بحيث تنجح في خداع الجانب الآخر، وتجعله يرى تطور الموقف منطقيًا تمامًا ..
في البداية تمت ترقية الرجل، ونقله إلى منصب يتيح له الاطلاع على مزيد من المعلومات والأسرار، باعتبار أن هذا سيحقق هدفًا مزدوجًا؛ إذ سيقنع الجانب الآخر أنه ما زال فوق مستوى الشبهات، كما سيبرر في الوقت ذاته تصاعد أهمية ما يرسله لهم ..
ثم بدأت مرحلة تطوير المعلومات تدريجيًا ..
وكان من الواضح أن تلك المرحلة قد جذبت انتباه الخصوم بشدة؛ إذ راحوا يطالبون الرجل بالمزيد من المعلومات، في نهم شديد، إلا أننا حرصنا طوال الوقت، على أن نمنحهم قدرًا محسوبًا منها، لا يشبع نهمهم ولا يوقف لهفتهم في الوقت ذاته ..
وعندما حانت اللحظة المناسبة، بدأنا في إرسال المعلومات الخاصة بعميلنا الخامل، إلى الجانب الآخر ..
وكانت صدمة لهم ..
صدمة قوية ..
وبسرعة، تحركوا، وحاصروا العميل، وأوقعوا به ..
واحترق ذلك العميل ..
احترق ليضيء الطريق أمام رجلنا ..
وعبر مصدر داخلي، تلقى الرجل مكافأة سخية، عن تلك المعلومات الخطيرة جدًا، مما جعلنا نتأكد من وجود جواسيس آخرين داخل أرضنا، لم نكتشف أمرهم بعد ..
ولكن، وعلى الرغم من سعادتهم، لم يكن رجال الجانب الآخر من البسطاء أو السذج، فقد تصرفوا كما ينبغي أن يكون عليه المحترفون ..
واستدعوا جاسوسهم إلى إحدى الدولة الأوربية ..
وكانت هذه أخطر مرحلة في العملية كلها ..
على الإطلاق.
| |
|
| |
مدير المنتدي المدير العام
أوسمة : عدد المساهمات : 734 نقاط التقييم : 12165 تاريخ التسجيل : 13/05/2009 العمر : 38 الموقع : Sudan العمل/الترفيه : د.صيدلي
| موضوع: رد: مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق الإثنين أبريل 23, 2012 9:07 pm | |
| أخطر مرحلة
طوال أكثر من سبع ساعات متصلة، اجتمعت بفريق العمل، وعدد من خبراء المخابرات، في بعض المجالات؛ لمناقشة كيفية السيطرة على الأمور، عندما نسمح للجاسوس بالخروج، ولقاء الطرف الآخر، خارج الحدود ..
كان هناك احتمال أن ينكشف الرجل، ويدرك الآخرون أنه قد تحول إلى عميل مزدوج، يعمل لحسابنا، واحتمال آخر أن ينقلب علينا، عندما يجد نفسه خارج الحدود ..
ولما كان الاحتمال الأول أكثر خطورة، فقد بدأنا به مناقشاتنا، ورحنا ندرسه من كل الوجوه، وبكل الصور الممكنة ..
ولأن عريض المنكبين أكثرنا خبرة وحنكة، فقد اقتنعنا جميعًا بوجهة نظره، عندما أكد أنهم سيحاولون استجوابه بوساطة جهاز كشف الكذب حتمًا، لتأكيد استمرار ولائه ..
وفي حالات مماثلة، نقوم عادة بتدريب العميل على التعامل مع جهاز كشف الكذب، الذي لا يخرج عن كونه آلة قياس متعددة (Poly Gram)، مهمتها قياس معدلات النبض والتنفس وإفراز العرق؛ لتحديد ما إذا كان الشخص يكذب أم لا ..
وكل أجهزة المخابرات تدرب رجالها على التعامل مع تلك الأجهزة، والسيطرة على أعصابهم لخداعها، أو مراوغة الأسئلة، بإجابات صحيحة، ولكنها غير مباشرة، ولكن في حالتنا هذه، كان هذا مستحيلا تمامًا ..
فالاستدعاء جاء محددًا مهلة قصيرة جدًا للقاء، بالإضافة إلى أن طبيعة العميل نفسه كانت عصبية، قابلة للانهيار، مع الضغوط الشديدة، التي سيمارسونها عليه حتمًا ..
وكل هذا يعني أنه سيسقط في قبضتهم، دون أدنى شك ..
ولكن رفض ذهابه للقائهم كان يعني تأكيد شكوكهم، وحذفه تمامًا من منطقة ثقتهم، وانعدام فائدته مائة في المائة ..
لذا كان الأمر معقدًا ..
وكان الاجتماع طويلا ..
للغاية ..
ولكن مع نسمات الفجر الأولى، كنا قد وضعنا الخطوط العريضة، لخطة ذات ثلاث خطوات ..
وبعد جلسة طويلة مع الجاسوس، سمحنا له بالسفر ..
وفي تلك الدولة الأجنبية، التقى به رجال مخابرات الخصم، واستقبلوه بالتقدير والترحاب، ثم اصطحبوه فورًا إلى طائرة أخرى، حملتهم مباشرة إلى دولتهم الأم ..
وعندما استقبلوه في مكاتبهم الرئيسية، قام العميل نفسه بتنفيذ الخطوة الأولى من الخطة، عندما فاجأهم بكم من المعلومات الحديثة، التي بهرتهم، وجعلتهم مثبتين على مقاعدهم لربع ساعة كاملة، قبل أن يخبروه بحماس أنه مال زال بالفعل أفضل رجالهم في المنطقة ..
ولكن هذا لم يمنعهم من تحديد موعد معه، في صباح اليوم التالي، لاختبار كشف الكذب، بعد أن أكدوا له أنه لا أحد يفلت منه أو ينجح في خداعه أبدًا ..
وفي المنزل الصغير، الذي قضى فيه ليلة، نفذ العميل الخطوة الثانية، وفقًا لتوجيهات الخبراء الدقيقة ..
فوفقًا للمعلومات، التي جمعناها من مصادر مختلفة، كنا نعلم أنهم سيجرون الاختبار في السابعة والنصف صباحًا، في مختبرهم الرئيسي، أسفل مبنى مخابراتهم، لذا، ففي السادسة تقريبًا، أخرج هو من جيب خفي في حزامه عقارًا خاصًا، تناوله مع قليل من الماء؛ لتهدئة أعصابه، وإزالة كل توتراته الداخلية ..
أما الخطوة الثالثة، فكانت أعقدها ..
فعندما هبط العميل من ذلك المنزل الصغير، ليستقل سيارة رجال مخابرات الخصم، ظهر عند الناصية فجأة شاب نزق، ينطلق بدراجته في تهور واضح، وبتوقيت دقيق بارع، انحرف الشاب فجأة، ووثب بدراجته فوق الإفريز، ثم ارتطم بالعميل، وأوقعه أرضًا في عنف، قبل أن يرتبك، ويعتذر له وللجميع في خفوت وذعر ..
ولأن الوقت لا يكفي للدخول في شجار جانبي، فقد اكتفى الرجال بتعنيفه وزجره، ثم اصطحبوا العميل معهم، وتركوا الشاب خلفهم، يبتسم ابتسامة خبيثة ظافرة، وهو ينطلق بدراجته مبتعدًا ..
أما العميل نفسه، فقد أبدى تألمه من عنف سقوطه، وأبدى الكثير من التوتر لما حدث، حتى بلغ المختبر، وجلس إلى جهاز كشف الكذب، والكل يدرك ما أصابه في الصباح ..
وبدأ الاختبار ..
ومع العقار المهدئ، وتظاهره بالتوتر والألم، من جراء إصابته، جاءت النتائج كلها مرتبكة نوعًا ما، ولا يمكن تحديد موقفها بدقة، لذا فقد بدأت الرجال في تفسيرها، وفقًا لمعطيات الموقف ..
ومع المعلومات الثمينة التي أحضرها، والإصابة التي أصابته أمام عيونهم، على نحو بدا عشوائيًا تمامًا، كانوا أكثر ميلا إلى النظرة التفاؤلية في تفسير الأمور، مما أقنعهم بولائه ..
وعبر مصادرنا الأخرى، علمنا أن الرجل قد اجتاز اختبار كشف الكذب بنجاح، وأن خطتنا الثلاثية قد أفلحت تمامًا، وبمنتهى الدقة ..
ولا أحد في الدنيا كلها يمكنه أن يتصور مدى سعادتي وارتياحي، بنجاح لعبتي الكبرى الأولى في هذا العالم ..
وربما كان أكثر ما أسعدني هو تلك الابتسامة، التي ملأت وجه عريض المنكبين، وهو يصافحني، قائلا :
- مبروك.
لحظتها رقص قلبي فرحًا، وحملت ملامحي كل ما يعتمل في نفسي، وأنا أدخل مكتبي مع وجه القنفذ، الذي بدا هادئًا رصينًا كعادته، وكأنما الأمر لا يعنيه، فهتفت به في حماس :
- نجحنا .. انتصرنا في أول مواجهة كبرى.
كنت أعلم أنه رجل عسير الانفعال، إلا أنني، وعلى الرغم من هذا، كنت أتمنى أن يمنحني ولو لمحة من الارتياح، تعبر عن النجاح، إلا أنه، وعلى الرغم من هذا، التفت إلىّ بكل رصانته، التي تستفز مشاعري دومًا، وقال :
- ولكن العملية لم تنته بعد.
انعقد حاجباى، وأنا أقول، في شيء من العصبية :
- الرجل تجاوز اختبار كشف الكذب.
هز كتفيه في هدوء، قائلا :
- ولكنه ما زال في أرضهم.
تفجرت عبارته في تلافيف مخي كالقنبلة، ونسفت كل شعور بالنصر دفعة واحدة، لتضع بدلا منه إحساسًا رهيبًا بالقلق، جعلني أغمغم :
- أنت على حق.
ومع تبخر سعادتي، عدت أجلس خلف مكتبي وأعيد دراساتي وحساباتي مرة أخرى، قبل أن أهب هاتفًا :
- اجتماع.
لم يكن أفراد مجموعة العمل قد استقروا خلف مكاتبهم بالفعل، عندما وصلهم الاستدعاء، فعادوا إلى حجرة الاجتماعات في قلق متسائل، والتفوا حول المائدة، لأحتل أنا قمتها، قائلا :
- رجلنا ما زال في أرض العدو.
كنت أتوقع أن تبدأ عبارتي هذه دورة جديدة، من المناقشات، والحوارات، والدراسات، إلا أنني فوجئت بعريض المنكبين يبتسم، قائلا في هدوء :
- الرجل سيعود إلى القاهرة، في طائرة التاسعة مساءً.
حدقت في وجهه مندهشًا متوترًا، فخفض عينيه، متمتمًا :
- أنت لم تسأل.
وكان درسًا قاسيًا ..
ولكنني استوعبته جيدًا ..
بل الواقع أنني وجدت فيما حدث عدة دروس ..
فلا ينبغي أبدًا أن أحصد النجاح، قبل أن تصبح نتائجه في قبضتي بالفعل ..
ومن الضروري أيضًا ألا أتوقف عند جولة ناجحة، قبل أن تنتهي المباراة كلها ..
ولا تجاهل حتى لأدق أدق التفاصيل ..
أو أتوقف عن متابعة المهمة لحظة واحدة، مهما بدت ناجحة أو مطمئنة ..
والأهم من كل هذا أن أسيطر على مشاعري وانفعالاتي، حتى آخر لحظة، وحتى لآخر العمر أيضًا ..
وأمام مجموعة العمل، اعترفت بكل الأخطاء التي ارتكبتها، وطلبت من الجميع تسجيلها ومناقشتها، حتى لا تتكرر أبدًا، مني أو من أى زميل آخر ..
ثم غادرت عائدًا إلى مكتبي ..
وهناك، جلست صامتًا، أسترجع كل ما حدث، بكافة التفاصيل ..
أسترجع بداياتي ..
وخطواتي ..
وتطوراتي ..
ونجاحاتي ..
وأخطائي أيضًا ..
ووسط كل هذا، واصلت متابعة رحلة العميل، حتى عاد إلى أرض الوطن، حيث استقبلته أسرته، واصطحبته فورًا إلى منزله ..
وحفاظًا على السرية، ظللت وفريقي صامتين صابرين، حتى صباح اليوم التالي، عندما التقينا به في مكان آمن، وراح يروي لنا كل ما حدث له هناك ..
واستمعنا إليه نحن في صمت، ودون أن نقاطعه بحرف واحد، حتى انتهى من روايته، التي تطابقت تمامًا مع ما لدينا من معلومات ..
وكان هذا دليلا على أن الرجل قد عاد إلى رشده، وأنه قد استعاد ولاءه الأصلي لنا، مع ثقة الطرف الآخر التامة ..
وفي عالمنا، يعتبر هذا نجاحًا كاملا ..
لذا، فقد عدت إلى مكتبي؛ لأكتب تقريري، وأقدمه إلى رؤسائي ..
ولست أدري كم استغرق هذا من وقت، فقد انهمكت في الأمر تمامًا، حتى فوجئت بعريض المنكبين أمامي، يبتسم ابتسامة واضحة ..
وما أن أطل التساؤل من عينىّ، حتى مال عريض المنكبين نحوي، ومد يده إلىّ، قائلا :
- دعني أهنئك.
صافحته متسائلا :
- على نجاح العملية؟!
هز رأسه نفيًا في صمت، في حين أجاب وجه القنفذ، وهو يمد يده إلىّ بدوره، وابتسامته (النادرة) لم تفارق شفتيه بعد :
- بل على اجتيازك أخطر مرحلة.
تضاعف التساؤل في عينىّ، فتابع عريض المنكبين :
- أهلا بك، في عالم المخابرات.
وهنا تحول التساؤل إلى بريق ..
وإلى فرحة عارمة ..
لقد فهمت ما يعنيانه ..
فاليوم فقط، أصبحت أستحق ذلك اللقب، الذي سعيت لحمله دومًا ..
والذي أحمله الآن عن جدارة ..
لقب : رجل مخابرات .. تمت بحمدالله | |
|
| |
| مذكرات رجل مخابرات .. بقلم د.نبيل فاروق | |
|