(1) :
عندما جاء الظلام وعندما انتصر الأسود العظيم على سائر الألوان، وعندما أعلنت العاصفة عن مجدها القادم..
عندها أغلق جيروم ماكبرايد النوافذ.. طبعا أخذ شهيقا عميقا قبل كل شيء، ثم أغلقها.. عاد إلى غرفة المكتب حيث كانت أماندا جالسة ملتفة بذلك الشال الصوفي ذي الشراشيب.. شعرها الأشيب وشفتاها المزمومتان النحيلتان الشبيهتان بكيس مصرور.. شفتان تشيان بربو طويل الأمد. نظرات كئيبة من عينين رماديتين غلفت سحابتان قرنيتيهما.. كل هذا يجعلها أقرب إلى ساحرة هندية عجوز تجلس أمام النار، منها زوجة لمحاسب من أدنبره..
الحقيقة أنها كانت كذلك..
كان الجو يقعقع بالانتشاء والافتتان.. الكهرباء الاستاتيكية المصاحبة للعواصف لها قدرة السحر.. يمكنك أن تسمع شعيرات عنقك وهي تنتصب أو ترى ذرات الأكسجين تصطدم بذرات النتروجين في الهواء الخارج من صدرك..
يُشعل ماكبرايد المدفأة.. اللهب يتوهّج..
إن الكريسماس قريب، وهذا المشهد يجلب لهم ذكرى عزيزة مرتبطة بالطفولة، لكنه كذلك مشهد موجس يشعرك بخوف غامض.. اللهب يتراقص..
يجلس أمامها في توتر ويراقب شفتيها النحيلتين.
كانت أماندا هي أخته وهي أرملة الآن بعد وفاة زوجها المحاسب. كانت تعرف الكثير.. وهذا الكثير ليس مما يريحك أن تعرفه.. هذه نتيجة قراءات استمرّت لعدة أعوام في كتب عتيقة صفراء لو وجدتها محاكم التفتيش عندك لأحرقتك، ولو وجدها صائد الساحرات ماثر لديك لشنقك.. بعض هذه الكتب لم يسمع عنها مؤلفا كتاب مطرقة الساحرات قط..
أماندا كانت تعرف الكثير، وقد جاء الوقت الذي تمنح فيه هذا العلم لأخيها..
جلب لها قدحا ساخنا يخرج منه بخار كثيف.. رائحة هذا المشروب غريبة.. في الحقيقة هي أعشاب عدة بينها الزنجبيل والقرفة وربما بعض الزعتر.. لست واثقا..
ترشف رشفة من السائل الأحمر وتسعل..
تنظر له في ثبات..
تسأله:
- هل أنت متأهب؟
يقول لها بصوت مبحوح إنه متأهب.. فتبتسم ابتسامة خافتة.. تواصل الشرب ثم تطرق برأسها في نوع من الاستسلام، وتقول:
- هل عرفت كل الخطوات؟ الموقف لا يتحمّل الأخطاء.
- عرفت.. لكن لا أجرؤ.
ونهض ليقف وراءها ومرّر أنامله عبر خصلات شعرها الشيب المجعد..
قالت، وهي ترشف رشفة أخرى:
- تذكّر.. أنت تقف أمام باب عالم آخر.. ليس عليك سوى أن تمسك بالمقبض..
كان يعرف ذلك، ويُدرك أنه اختار اختياره ولن يتراجع.. هكذا أمسك بالسكين الطويلة القاطعة.. وبيد كادت ترتجف مررها تحت ذقن العجوز من الخلف..
برغم كل شيء كانت تبتسم تلك الابتسامة الغامضة المخيفة..
***
في تلك الليلة السوداء كانت العاصفة تهز الجدران هزا، وراح البرد يرتطم بالنوافذ. كان من العسير ألا تصدّق أن كل شياطين الجحيم قد هبطت على الأرض لتغزوها..
وكان هو مشغولا في إعداد الطقوس الأخيرة..
الدم.. الدم.. النجمة الخماسية على الأرض.. ثم سبعة الجماجم..
وضع الجماجم الضامرة المغبرة جنبا إلى جنب في صف طويل.. كان هناك نقش على قطعة قماش يمثل رأس كبش، وقد علّقه على الجدار فوق الجماجم..
فتح النافذة ليراقب ألسنة البرق تشق عنان السماء.. إنها اللحظة.. لا شك أن أبواب الجحيم تنفتح. لا شك أن الرسالة الظامئة الملهوفة وصلت هناك..
لا بد أن بلفيجور أصيب بالدهشة.. هذه التعويذة بالذات لم تستعمل قط، وقد حسب البشر أضعف من أن ينفّذوها.. لا بد أنهم جميعا تصايحوا في دهشة: هناك شيء غريب يدور في اسكتلنده..
استدار يرقب الجماجم.. يعرف ذلك التأثير الناجم عن ضوء البرق، والذي يُوحي بأن الأشياء تتحرك حركة متقطعة ويسمّونها التأثير الستروبوسكوبي.. فعلا يشعر كأن الجماجم دبت فيها الحياة، وأنها تغمز بعيونها..
القشعريرة تسري في عروقه..
بل الحقيقة أن الجماجم تغمز فعلا.. لا شك في هذا.. اتجه للشموع وأشعلها، وهكذا انتشر الضوء الكئيب الغامض في المكان.. وراح اللهب يتراقص من الهواء مما اضطرّه لأن يغلق النافذة..
جلس أمام الجماجم وقد اتسعت عيناه رعبا وذهولا.. يكفي أن ترى وجهه لترتجف فرقا..
على بُعد خطوات يوجد الرأس موضوعا في إناء من خزف.. لقد تخلص من الجسد لكن الرأس مهم للعملية..
البرق يضرب بقوة..
الآن هو يسمع يقينا الصوت يصدر من الجمجمة الأولى:
- ماذا تريد أيها الغريب؟؟
***
سامانتا كانت قلقة..
لم تلقَ جيروم منذ فترة ولا تعرف ما يفكر فيه، لكنها كانت تهيم به حبا.. كانت تجد في عينيه الواسعتين براءة غير معتادة، وكانت تحب دهشته من العالم التي يبديها في كل حين.
عندما جلست مع صاحبتها في المقهى، راحت تشفط اللبن المخفوق بالشفاطة، وقالت:
- أنا أحبه يا ماري.. لا شك في هذا..
يطل رأس ماري الصغير من فوق ياقة البول أوفر، وترفع عويناتها على قصبة أنفها وتقول:
- تعرفين أنه فاشل..
- لا أعرف ذلك.
قالت ماري محاولة أن تتكلم بعقلانية:
- يكتب روايته منذ ثلاثة أعوام.. يستطيع أي طفل أن يدرك أن لن يكملها أبدا.. ليس لديه ما يقال.. وفي كل مرة يكذب ويزعم أنه شارف الانتهاء. هذا لا يحدث أبدا.. لن تكون هناك رواية..
كانت سامانتا فتاة حمراء الشعر يملأ النمش خديها، وكانت مفعمة بالأحلام كذوات الشعر الأحمر. تعمل رسّامة في معرض متخصص في تصميم الأزياء. رقيقة خجول.
قالت سامانتا:
- وهل الرجل هو روايته؟
- أنت أحببته لأنه كاتب رواية ناجح.. مستقبلكما معا يتوقف على كونه كاتب رواية.. باختصار وجوده يتمحور حول شيء واحد فإذا فقده لم يعد هو.
ثم أضافت:
- اعتزل العالم منذ فترة ويعتكف في بيته المطل على الساحل في مول أوف كنتاير.. أراهنك على أنه موشك على الجنون.. هل رأيت فيلم "سطوع" لستانلي كوبريك عن قصة ستيفن كنج؟ الكاتب المنعزل بحثا عن إلهام بدأ يجن.. ولا نعرف أبدا إن كان قد جنّ أم إن هذا مسّ شيطاني.
قالت سامانتا بطريقتها عندما كانت البنات يضايقنها وهي طفلة:
- أنا لا أهتمّ بكلامك.. سوف أذهب لأزوره وسوف أجد عنده رواية ممتازة..
قالت ماري ضاحكة لتغيظها:
- عمل كثير بلا راحة.. يجعل جاك صبيا متبلدا.
كانت من جديد تشير لرواية ستيفن كنج الرهيبة. لقد فتشت الزوجة أوراق زوجها لتعرف ما كتبه حتى هذه اللحظة فلم تجد سوى عبارة عمل كثير بلا راحة.. يجعل جاك صبيا متبلدا.
كانت سامانتا تنوي زيارة جيروم.. ولم تدرِ أنها اختارت أسوأ الأوقات طرًا لذلك.
*****