المواجهة
تؤكد كل النظريات الجديدة فى العالم الحديث, ان اصابة المرء بأى مرض فى الوجود يحتاج الى عاملين اساسيين وهما عامل الوراثة وعامل البيئة..
وبمعنى ادق لابد وان تحوى الضفيرة الجينية للمرء العامل الوراثى الخاص بالمرض وان تحيط به ظروف بيئية مناسبة لظهور المرض وصعوده الى الجسم..
ولقد أكدت الابحاث صحة هذه النظريات وحتمية تشارك العاملين معا بحيث لا يكفى احدهما وحده لظهور المرض ايا كانت نوعيته عضوية او حتى نفسية..
النظريات والابحاث الجديدة إذن تؤكد انه حتى الفوبيا بأنواعها تحتاج الى عامل وراثى فى جينات الجسم والى ظروف بيئية مناسبة تضغط على هذا العامل الوراثى وتظهره, ليصاب الانسان بحالة من حالات الفوبيا أيا كان نوعها..
ولتوضيح الامر اكثر دعونا نفترض وجود طفلين تعرضا لواقعة واحدة ولتكن لدغة النحل مثلا فى عامهما الاول والاول يحمل الجينات المناسبة والآخر لا يحملها..
كلاهما سيصاب عندئذ بالالم والذعر والفزع وسيبكى كثيرا وطويلا ثم تمضى الواقعة مع بعض التورمات والكريمات المرطبة ومضادات الحساسية المفرطة وينتهى الامر بأحدهما وهو الذى يحمل الجينات بالاصابة بحالة فوبيا النحل طيلة عمره, فى حين ينسى الاخر الامر تماما وربما تزداد مخاوفه المستقبلية من النحل إلا أنها لن تتحول ابدا الى خوف مرضى او هلع مفرط..
التوصل الى هذا قلب كل موازيين العلاج التى كان يستخدمها الاطباء والمعالجون النفسيون قديما للتعامل مع انواع الفوبيا الجينية..
وهذا لا ينطبق على الفوبيا البسيطة او المكتسبة والتى مازالت اساليب مواجهتها وعلاجها متشابهة مع ما كان يحدث قديما..
فالخطوة الاولى دوما هى معرفة تاريخ الفوبيا ومتى ظهرت او نشات وهل تتطور الى الاسوأ أم الى الأفضل مع مرور الزمن..
وبعدها لابد من الغوص فى اعماق المريض للوصول الى منشأ المشكلة..
وهناك عدة وسائل للقيام بهذا الغوص النفسى الخاص جدا لبلوغ قاع حالات الفوبيا, إذ إن هذا يمكن ان يتم عن طريق التحدث المنظم و الهادئ مع المريض على فترات منتظمة متباعدة او متقاربة وفقا لنوع وشدة الحالة حتى يصل المعالج الى النقطة التى تفجرت عندها الفوبيا وايضاحها للمريض على نحو مباشر وهادئ ايضا..
وفى معظم الحالات المكتسبة يمكن ان ينهى هذا المشكلة إذ ما أن يزيل المعالج الحاجز, بين العقل الواعى والباطن حتى تتضح الصورة للمريض وتبدأ فى اتخاذ حجمها الحقيقى بحيث تتحول من عقدة كبيرة الى مشكلة محدودة يسهل التعامل معها ومواجهتها ببعض العقاقير الطبية او الجلسات النفسية المكثفة..
وفى حالات اخرى يعجز المريض نفسه عن تحديد بداية المشكلة على الرغم من المحاولات والمحاورات لذا يصبح من الضرورى الانتقال الى مرحلة اكثر حرفية..
الى التنويم المغناطيسى..
والتنويم المغناطيسى ليس نوعا من الدجل او الشعوذة بل هو امر علمى تماما ويرتبط بالعديد من العوامل اهمها الشخص نفسه فوفقا للدراسات ليس كل انسان قابلا للخضوع للتنويم المغناطيسى فهناك عقول مقاومة بشدة لهذا الامر, ولا يمكن تنويمها ابدا..
لابد اذن وان يوافق المريض على الخضوع للتنويم المغناطيسى وان يستسلم لمعالجه تماما رغبة منه فى كشف طبيعة مرضه والقضاء عليه تماما..
والمزية الرئيسية للتنويم المغناطيسى, هى انه يشحذ كل حواس الانسان وذاكرته, ويساعده على استرجاع تفاصل دقيقة من اعمق اعماق عقله الباطن على نحو يعجز عن فعله على نحو ارادى مهما بذل من جهد..
ولكن هذا يحتم ان يكون المعالج نفسه شديد البراعة فى تعامله مع المنوم مغناطيسيا, فمنذ سنوات قليلة كشف احد العلماء ان المعالج قد يقود المريض الخاضع للتنويم المغناطيسى الى امور لم تحدث فى عالم الواقع ولكنه اوحى له بحدوثها دون ان يدرى..
إذن فالأمر يحتاج الى دقة شديدة..
دقة تترك المريض حرا وتسمح بتداعى افكاره وذكرياته فى انسيابية هادئة, حتى يتوصل المعالج الى قلب المشكلة ويفجر الحقائق كلها فى وضوح دون ان يزرع أية اوهام فى عقل مريضه..
وهناك حالات عديدة من الفوبيا تم علاجها تماما عن طريق التنويم المغناطيسى إما بتوضيح المشكلة وعلاجها او بدفع المريض الى محوها تماما من عقله..
والاسلوب الاول هو الاكثر دقة وضمانا بالتأكيد إذ أن محو المشكلة من العقل أمر مستحيل كما يؤكد بعض العلماء مما يعنى أنها قد تعود الى البروز بغتة, ودون سابق انذار بعد فترة تطول او تقصر ولكن عودتها ستعيد الفوبيا مرة أخرى..
وربما على نحو اكثر عنفا..
وكل هذا, كما سبق ان قلنا يرتبط بحالات الفوبيا المكتسبة وحدها دون سواها..
أما حالات الفوبيا الجينية فعلاجها يستلزم ما يعرف باسم العلاج الجينى وهذا النوع من العلاج لم يتطور الى الحد الكافى بعد إلا ان الحالات القليلة التى عولجت به, أعطت نتائج مدهشة فى حالات مرض السكر والهيموفيليا ونقص المناعة الوراثى وغيرها..
والمجال ليس مفتوحا هنا للحديث بالتفصيل عن العلاج الجينى, ولكنه وسيلة لإحلال ضفيرة جينية محل أخرى فى مناطق الإحلال والتجديد مثل نخاع العظام بحيث تنمو وتتضاعف وتخلص الجسم من تأثيرات جينية بعينها بعد فترة محدودة من الوقت..
ونجاح العلاج الجينى فى الامراض العضوية لا يعنى نجاحه فى الامراض النفسية ايضا, او أنه ليست هناك أية تجارب واضحة فى هذا الشأن على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور.. ولكنه وسيلة مستقبلية تنبأ لها العلماء والاطباء بالنجاح الفائق, وبقدرتها على تغيير وجه العالم طبيا ونفسيا مع مطلع العقد الثانى من القرن الحالى..
والامر الذى يستحق الانتباه فى هذا الشأن هو أن معظم حالات الفوبيا التى خضعت للعلاج المكثف وأقر الاطباء بنجاحها وبأنها قد عولجت تماما لم يمكن الجزم بأن علاجها سيستمر للأبد..
ففى وجود العامل الوراثى قد تتوارى الفوبيا او تنكمش وتهادن العقل الواعى لبعض الوقت بعد كشف الصدمة البيئية التى سببت ظهورها ولكنها تظل دوما متأهبة للظهور ثانية مع اى صدمة بيئية جديدة..
ففى 32% من الحالات ارتدت الفوبيا مرة اخرى بعد 3 الى 5 سنوات من الشفاء, بسبب واقعة واحدة وقد تقل كثيرا عن الواقعة الاصلية التى كانت السبب فى ظهورها فى مرحلة الاصابة الاولى..
وإذا ما عادت الفوبيا فإن علاجها يستلزم عندئذ وقتا اطول وجهدا اكبر تماما مثلما يحدث فى لعبة اليويو التى يدفعهل الاطفال الى اسفل ثم يجذبونها الى اعلى, فتدور حول خيطها لترتفع ثم تعاود الانخفاض وهكذا..
ولو انك تابعت اليويو لوجدت انه يلتهم فى المرة الاولى مساحة كبيرة فى الخيط, فى سرعة مدهشة ثم يلتهم مساحة أقل فى سرعة أقل فى دورته الثانية وكذلك فى الثالثة وما بعدها..
ومن هنا أطلق العلماء على عملية عودة الفوبيا وعلاجها لأكثر من مرة, اسم(مبدأ اليويو)..
وهذا لا يعنى أن الفوبيا غير قابلة للشفاء ولكن يعنى حتمية الحرص الشديد فى التعامل مع مريضها بعد العلاج بحيث يبتعد تماما عن كل المؤثرات التى يمكن أن تصيبه بصدمة بيئية أخرى..
وقبل أن نختم حديثنا لابد وأن نشير هنا الى أن أحد الاسباب القوية التى تمنع علاج مرض الفوبيا هو نوع من الفوبيا ايضا..
فوبيا الاطباء..
فالمرضى هنا لا يخشون فى الدنيا كلها قدر الاطباء والمستشفيات وحجرات العلاج والعناية المركزة و...
وسيطول الحديث الى ما لا نهاية, لأننا نتحدث عن حالة يمكن أن نضعها فى ألف صورة وصورة..
حالة فوبيا
تمت بحمد الله